دروس الانتخابات الأميركية
لم تكن الانتخابات الأميركية التي انتظمت أخيرا مجرّد اقتراع رئاسي يجري في موعده، بقدر ما كانت اختبارا عسيرا لمدى قدرة الديمقراطية الأميركية على مجابهة التحدّيات التي تواجهها في ظل اتساع القاعدة الاجتماعية والسياسية لليمين الأميركي المتطرّف.
تقدّم هذه الانتخابات دروسا في هذا الصدد، أبرزها أن قيام الدول على مؤسسات ديمقراطية راسخة لا يعني أنها باتت محصّنة في مواجهة الإيديولوجيات المعادية للديمقراطية والتعدّدية. ولنا في التجربة النازية أبلغ مثال على ذلك؛ فقد استغل أدولف هتلر مؤسسات النظام الديمقراطي لجمهورية فيمار وموارده، ليصل إلى السلطة، قبل أن ينقلب على هذا النظام، ويُحوّل ألمانيا إلى دولة استبدادية حكمها بيد من حديد، ثم زجّها في أتون حربٍ كونية مدمرة.
تؤكد هذه الانتخابات أن النزعات السلطوية واليمينية والشعبوية تظل مصدر تهديدٍ للديمقراطيات الليبرالية، بما تمتلكه من موارد سياسية واجتماعية وتنظيمية، تساعدها على تأجيج مشاعر الكراهية والعنصرية تجاه الأجانب والمهاجرين والأقليات. وقد نجح دونالد ترامب، خلال السنوات الأربع الماضية، في بناء عقيدةٍ سياسيةٍ تكرّس نزعة عرقية بيضاء، وترى في السود واللاتينيين والآسيويين والمسلمين مصالحها العابرة للحدود، سيما أن مؤشّرات ديموغرافية تدل على تقلص نسبة السكان البيض، مقارنة بالتزايد الملحوظ في نسب الأقليات الأخرى. وهو الأمر الذي قد يربك بعض الخلاصات السوسيولوجية بشأن الانقسامات التي يشهدها المجتمع الأميركي والمجتمعات الغربية بوجه عام؛ فإذا كان من المسلّم به أن التمايزات الأفقية (ثقافية، مهنية، اقتصادية...) تُعدُّ مصدرا رئيسا للتقاطبات الاجتماعية والسياسية التي تطبع المجتمعات الحديثة، وفي مقدمتها المجتمع الأميركي الذي، عادة ما يُعرَّف بأنه مجتمعٌ ينبني على الكفاءة والإنجاز مصدرين للنجاح الفردي، فإن الاقتراع الرئاسي يعيد إلى الواجهة هذه الخلاصات، وإنْ على استحياء، فرفضُ ترامب التسليم بهزيمته يعزّز الانقسام العمودي الذي بدا أن المجتمع الأميركي قد تخلص منه في العقود الأربعة المنصرمة، بعد الارتجاج الذي أحدثته حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
وقد جاءت واقعة مقتل المواطن الأسود، جورج فلويد، لتميط اللثام عن الأزمة العميقة التي يعرفها هذا المجتمع على أكثر من صعيد، فهناك نخبة بيضاء لا تنظر بعين الرضا إلى التحولات الأفقية داخل هذا المجتمع، وترى في الصعود الاجتماعي والسياسي والثقافي للأقليات الأخرى عائقا أمام استمرار هيمنتها السياسية... كانت هذه النخبة بحاجة إلى خطاب سياسي يستجيب لنزعتها اليمينية والسلطوية، ويحفظ هويتها المهدّدَّة، ويُكسبها ملامح قوة اجتماعية متجانسة. وقد نجحت ''الترامبية'' في ذلك إلى حد كبير، بعد أن غدت عنوانا لهذه الهوية، وأفقا مستقبليا لها. ولم يكن الأمر بعيدا عما يحدث على الجانب الآخر من الأطلسي، بعد أن صار اليمين الشعبوي رقما أساسيا في معادلة الصراع السياسي في أكثر من بلد أوروبي.
على صعيد آخر، يكرس سلوكُ ترامب، في مختلف أطوار هذا الاقتراع، صعود النزعات السلطوية والاستبدادية التي ترفض التعدّدية والتداول السلمي على السلطة، فقد رفض، في سابقةٍ من نوعها، الاعتراف بهزيمته، متوسّلا بما راكمه طغاة العالم من خبرةٍ في رفض ما تفرزه صناديق الاقتراع حين لا تأتي على هواهم. وقد أعاد سلوكه إلى الأذهان أرشيف المهازل الانتخابية التي تشهدها بلدان كثيرة، ومنها بلداننا العربية التي غالبا ما تكون فيها اللحظة الانتخابية مناسبةً لإعادة إنتاج النظام القائم، وتدوير مؤسساته، وتوزيع المغانم على النخب والقوى المتحالفة معه، فالانتخابات لا تحوز شرعيتها إلا بفوز ''الزعيم الخالد'' أو ''الحزب الذي يقود الدولة والمجتمع''، أو الأحزاب الممالئة للسلطة. وعدا ذلك، فإنها تغدو، في حالة فوز مرشّح أو حزب آخر، عنوانا لمؤامرة أو دسيسة خارجية.
تجد اليوم الديمقراطية الأميركية نفسها أمام تحدٍّ تاريخي، تُختبَر فيه قدرةُ مؤسساتها على تجاوز هذه الأزمة بإعادة الثقة للأميركيين في نظامهم السياسي، أمام النبرة التصالحية التي أبداها المرشح الفائز جو بايدن، الذي سيكون عليه إعادة اللحمة إلى مجتمعٍ منقسم، سيما في ظل التفشي المتسارع لفيروس كورونا، وقد وعد بأن تكون لهذا الملف الأولوية حالما يتسلم مهامه بشكل رسمي.