دبلوماسية الضرورة في الاتفاق السعودي الإيراني
شكّل الاتفاق السعودي الإيراني نقطة تحوّل في سياق علاقتهما الصراعية، إذ إن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة سبع سنوات خاضا فيها أشكالاً من التصعيد، قد تُفضي إلى تجسير الهوة بين الطرفين، على الأقل سياسيا وفي ملفات الأزمة، كحرب اليمن وغيرها من الملفات. وفي منطقة جيوسياسية واستراتيجية كمنطقة الخليج تحتل أهمية مركزية في معادلة الطاقة، فإن إنهاء الصراع السعودي الإيراني، أو تجميده، يعني تغيير موازين القوى والتحالفات، ومن ثم الأولويات. وبعيداً عن الاختراقات المحتملة في الملفات السياسية التي تحظى بأهمية لدى الطرفين، كحروب وكلائهما في المنطقة، فالأكيد هنا أن الاتفاق في توقيته ومضامينه، والذي لم يسبقه أي تطبيع أو حتى مصالحة سياسية، عكس مستويات الأزمة التي يواجهها الطرفان أكثر من أي شيء آخر.
لمفاعيل الحرب الروسية الأوكرانية ارتدادات عميقة قوّضت أسس النظام العالمي الحالي وكذلك التحالفات السياسية، إذ أعادت صياغة المشهد الدولي، ومن ثم اصطفاف القوى الفاعلة وفق التحدّيات الذاتية لا تحالفاتها التاريخية، ومن ثم محاولة تأمين موقعها في ظل هذه التحدّيات، وإذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية قد أثرت ضمن تداعياتها على الاقتصاد العالمي، فإن حرب الطاقة، وتأمين إمداداتها، ضاعفت من أهمية منطقة الخليج في سياق الصراع العالمي، كما أفضت هذه المتغيرات إلى جانب تراكماتٍ سياسيةٍ في تصدّع التحالفات التقليدية وظهور تحالفات مرحلية. وإذا كانت القوى الدولية قد استثمرت الصراع السعودي الإيراني في المنطقة لحماية مركزها كقوى حماية أو كقوى حليفة، فإن إدارتها الحرب في أوروبا عكست أولوياتها على حساب شركائها في الخليج، ومن ثم دفعت هذه السياسات، الخصمين الإقليميين إلى تفضيل دبلوماسية الضرورة على الاستمرار بالمواجهة ومن ثم تكييف أدواتهما في ضوء هذه التحوّلات، إلا أن الأهم أن وسائل المواجهة المختلفة التي تبنّتها إيران والسعودية فشلت كخيارات استراتيجية طويلة الأمد تحقق مصالحهما، ففي حين تقوّضت سياسة المحاور الإقليمية، فإن إدارة حروب الوكالة لم تفضِ إلى حسم معادلة الهيمنة الإقليمية لصالح طرف، مقابل تصاعد كلفتها، واستثمارها من قوى أخرى تشكّل تهديدا لها، ومن ثم وفي ضوء التحدّيات العديدة التي تواجههما على الصعيدين، الداخلي والخارجي، وكذلك طموحهما في تحسين موقعيهما، الإقليمي والدولي، شكل الاتفاق السياسي أولوية للطرفين، وذلك بهدف استراتيجي، تطويق المخاطر من خلال إغلاق ملفات الأزمة في المنطقة، أو تحييد دورهما كقوى محرّكة وداعمة للصراع.
الهيمنة على الإقليم كمجال حيوي لإدارة نفوذ متعدّد الغايات بالنسبة للسعودية، إلى جانب زعامة العالم السني مقابل إيران الشيعية، حكمت علاقتها بخصمها تاريخياً. وفي معركة النفوذ والأيديولوجيا الدينية، استطاعت إيران أكثر من السعودية إدراته لصالحها من تحريك القوى الشيعية في السعودية إلى تحويل حزب الله إلى دولةٍ داخل دولة في لبنان على حساب وكلاء السعودية، إضافة إلى نفوذها في العراق. وبسيطرة جماعة الحوثي على صنعاء، ضمنت إيران التوسّع إلى حدودها الجنوبية، ومن جهة ثانية، فإن امتلاك إيران قدرات نووية، أي قوة ردع، مقابل اعتماد السعودية على حليفها الأميركي جعلها عرضةً للاستهداف. وباستثمار إيران لنفوذ جماعة الحوثي في حرب اليمن، التي خاضتها السعودية لمواجهة وكيل إيران، فإن فشلها في هزيمته عسكرياً، ومن ثم انتقال التهديد إلى منشآتها النفطية الحيوية جرّاء صواريخ الجماعة، حوّلا إيران بالنسبة للسعودية من منافسٍ إقليمي وأيديولوجي يمكن مواجهته بوسائل مختلفة إلى تحدٍّ أمني، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائها، إضافة إلى فشل الاستراتيجيات التي تبنّتها لمواجهة نفوذ إيران، ففي حين تقوّضت المحاور الثنائية والثلاثية في الإقليم والخليج، جرّاء تنافسات القوى، بما في ذلك إقامتها علاقاتٍ مع إيران، كدولة الإمارات، فإن حرب اليمن أصبحت كجبهة استنزاف للسعودية، إلا أن الأسوأ من هذه الخيارات الاستراتيجية لمواجهة إيران مراهنتها على حليفها الأميركي لحماية أمنها من أي تهديد يطاولها، وكذلك تجميد القدرة النووية لإيران.
الساحة اليمنية لا تشكّل أهمية بالنسبة لإيران، عدا أنها ورقة سياسية حاسمة وبلا كلفة في لعبة صراع النفوذ
ومع تباين مقاربات الإدارات الأميركية المتعاقبة مع التهديد الإيراني في المنطقة، فإنها لم تكن جدّية كفاية بالنسبة للسعودية للحد من تهديد خصمها، إلى جانب أن سياسة الرئيس بايدن الخارجية التي قضت بتخفيض القوات الأميركية في الخليج، ثم انسحابها من أفغانستان، مقابل استمرار استهداف منشآتها الحيوية من جماعة الحوثي، كانت نقطة تحوّل استراتيجية بالنسبة للسعودية، إذ أدركت أن عليها تجريب مسار يحمي مصالحها من التهديد الإيراني ومن أذرعه العسكرية في المنطقة وتحديدا في اليمن، إلى جانب ضمان شكلٍ من الهيمنة الإقليمية والدولية تعكس كونها قوة نفطية. أمنياً، بدا أن الخيار السعودي يشمل تحوّلا في إدارة نفوذها في الإقليم، من طي خلافاتها السياسية مع الدول المجاورة إلى تغيير استراتيجيتها حيال إيران، فبعد انخراط مسؤوليها في جولات مشاورات مع مسؤولين إيرانيين طوال عامين من بغداد إلى مسقط، بدا الظرف الحالي ملائما لاستئناف علاقتها مع خصمها، خصوصا مع حرصها على إنهاء الحرب في اليمن.
إلى جانب ذلك، تبنّت السعودية استراتيجية ضبط علاقتها بحليفها الأميركي من خلال تحييد خطّها السياسي في الإقليم، بتجاوز معادلة الصراع مع إيران، ومن ثم تشكيل محور أمني في الإقليم بزعامة أميركا وإسرائيل، تكون هي طرفا فيه، ودوليا بالحفاظ على علاقات استراتيجية مع روسيا، وتمتين علاقتها بالصين، المنافس التقليدي لأميركا، والأهم إدارة قوتها الاقتصادية كأكبر منتجي النفط بما يخدم مصالحها، ولأن تنمية حلفائها الدوليين، إلى جانب تثبيت المعادلة الأمنية رسميا، وذلك بخفض التهديد الإيراني من خلال إقامة علاقات سياسية مباشرة معها، سيترتب عليها إنهاء الدور الإيراني في حرب اليمن، من خلال وقف دعم وكيلها جماعة الحوثي، ومن ثم دفعه إلى الانخراط بتسوية سياسية شاملة، تنهي الحرب وتضمن حماية الحدود السعودية، وتحقّق لها خروجا من حربها في اليمن، فإنها رأت أن الطريق يبدأ من إيران.
ساهم العمق العربي المتشظّي لصالح الصراع الطائفي الذي تزعمته إيران والسعودية في تحويل الوكلاء إلى أداة فاعلة في تنفيذ أجندات متعدّدة
إقليمياً، ومن ثم دولياً، بنت إيران شروط قوتها بوصفها قوة أيديولوجية عسكرية ونووية موازية لإسرائيل ومنافسة للسعودية، إذ تشكّل السعودية نقيضها الموضوعي ومنافسها على المجالين، الإقليمي والديني، وإذا كانت السياسة السعودية ظلت تتمحور حول التحالف الاستراتيجي مع أميركا، فإن إيران وظفت ذلك في بروباغندا إعلامية تخصم من رصيد منافسها، باعتباره في المعسكر المعادي للقضية الفلسطينية مقابل تقديم نفسها قوة مقاومة لإسرائيل ثم أميركا وحلفائها في المنطقة، ما مكّنها من استقطاب قوى محلية في الدول العربية.
ومن جهة ثانية، ساهم العمق العربي المتشظّي لصالح الصراع الطائفي الذي تزعمته إيران والسعودية في تحويل الوكلاء إلى أداة فاعلة في تنفيذ أجندات متعدّدة، دينية وسياسية وأيضا عسكرية، ففي الساحة اليمنية، استطاعت إيران، من خلال القوة العسكرية لجماعة الحوثي، تهديد عمق السعودية الاستراتيجي ومركز قوتها ممثل بالنفط، بتحويل المنشآت النفطية إلى هدف عسكري دائم للجماعة، ومن ثم إلحاق أضرار اقتصادية كبيرة بالسعودية، كما أن عدم تورّطها في حرب اليمن بشكل مباشر، على عكس السعودية، يعفيها من أي أعباء في الجانب الإنساني، وإنْ عرّضها للنقد بسبب تهريب الأسلحة إلى الجماعة، ما يمنحها أريحية في استثمار حرب اليمن، كمعادلة أمنية بالنسبة لخصمها، وقوة ضغط وتهديد بالنسبة لها، إلا أن تحدّيات داخلية وخارجية فرضت على إيران تفضيل الخيار الدبلوماسي، ومن ثم استئناف علاقتها بالسعودية، فإلى جانب استمرار الاحتجاجات الشعبية التي تشكّل ضغطا على السلطة الإيرانية وتقييد نشاطها إلى حد ما في الإقليم، فإن مخاوفها من قدرة السعودية على تحريك القوى السنية ضدها فرضت عليها تجريب الخيار الدبلوماسي. كما أن تقلص خياراتها بشأن تحسين شروطها في الاتفاق النووي نتيجة انسداد أفق المشاورات يضاعف من وطأة العقوبات الاقتصادية، خصوصا مع تضاعف العقوبات الأوروبية والأميركية على جهات إيرانية، طاولت شركات وسفنا تجارية، وقيادات عسكرية وأمنية، وهو ما يعني تطويق النظام، إلى جانب الارتدادات الاقتصادية من انهيار عملتها المحلية، وتزايد مستويات الفقر، فضلا عن المخاوف الإيرانية من التحالف الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة، والذي قد يستتبع هجمات تطاولها. لذا فإن عقد اتفاق سياسي مع السعودية يمكّنها من مواجهة تحدّياتها الداخلية والسيطرة على الاحتجاجات، وكسر حالة العزلة الإقليمية التي تعاني منها، سياسيا واقتصاديا. .. سياسيا يعني تنويع حلفاء في المنطقة، ثم حضورا إقليميا ودوليا أكبر. اقتصاديا، تنمية شراكات اقتصادية مع دول الخليج، وقبلها السعودية، تمكّنها من تجاوز العقوبات الاقتصادية، إلى جانب أن تطبيع علاقتها مع السعودية يعني تحييدها عن محور- إسرائيل - أميركا، وأن الصين الدولة الراعية للاتفاق، والتي تتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية مع إيران، فهذا يعني قبولا سعوديا بدور الصين قوة حليفة في منطقة الخليج، ومن ثم إبعادها عن حليفها الأميركي، وهو ما يعني تخفيض تأثير نفوذه على السعودية. وإذا كان تحييد الدور الإيراني في حرب اليمن، من خلال وقف هجمات وكيلها على السعودية، أهم القنوات لتطبيع علاقتها مع خصمها وكسب فوائد متعدّدة، فإن الساحة اليمنية لا تشكّل أهمية بالنسبة لإيران، عدا أنها ورقة سياسية حاسمة وبلا كلفة في لعبة صراع النفوذ.