دبلوماسية الحذاء

16 ابريل 2023

(يوسف عبدلكي)

+ الخط -

حتى نفهم دلالة عبارة "بأشدّ العبارات"، الواردة في إدانة إحدى وزارات الخارجية العربية اقتحامات المسجد الأقصى، أخيراً، عندما صرّحت: "ندين بأشدّ العبارات.."، ينبغي لنا أن نعرف، أولاً، حكاية صاحبنا الذي ألقى به حظّه العاثر للعمل ناطقاً رسميّاً بلسان وزارة خارجيةٍ عربية.

قيل لهذا الرجل المنحوس إن عليه أن يخضع، أولاً، لدورةٍ تدريبيّة مكثّفة، فرحّب بذلك، ظنّاً منه أن هذه الدورة ستساعده على إتقان "اللغة الدبلوماسية" التي سيستخدمها، كثيراً، كلما اعتلى منبر التصريح بالبيانات الرسمية، غير أن المفاجأة الصادمة بالنسبة إليه، أن الدورة انصبّ جلّها على كيفية تلميع الحذاء، وأنواع الطلاء المستخدَمة لهذه الغاية. وعندما استفسر عن السبب، قيل له إن وزارات الخارجية العربية كلها قائمةٌ على "دبلوماسية الحذاء"، لأن الحذاء هو مفتاح الشخصية، وهو الوسيلة المُثلى لإقناع الناس بالبيان، بل هو البيان نفسه في غالب الأحيان، فإن أُعجب الناس بحذائك فسيصدّقون ما تقول.

لم يكن أمام صاحبنا غير تصديق ما قيل له، فـ"الجماعة أدرى منه بالصواب، بحكم خبراتهم المتراكمة"، وراح يطبّق ما قيل له حرفيّاً عن علوم الأحذية، وصار يحرص على تلميع حذائه موظّفاً كل المهارات التي تعلّمها، قبل الإدلاء بأيّ تصريح، ولا سيما المهمّ منها، على غرار الإدانات المتكرّرة لـ"الإخوة الأعداء". ومع تفاقم علاقته بالأحذية، تذكّر أيضاً، حذاء الصحافي العراقي، منتظر الزيدي، الذي قذف بحذائه نافوخ الرئيس بوش الابن، فشعر الأخير بأن للحذاء أهمية لم يكن يدركها، خصوصاً أن حذاء الزيدي قُذف في مؤتمر صحافيّ، فأحسّ بنشوة بهيجة.

صار يذهب إلى المؤتمرات الصحافية، ولا شيء في ذهنه غير "دبلوماسية الحذاء"، إلى حدّ أنه لم يعد يدسّ البيانات التي سيصرّح بها في جيبه، بل في حذائه، وكان المراقبون يعجبون من حركته كلما أخرج البيان الصحفي من حذائه، وهو على منبر الإلقاء.

مضى كلّ شيء بسلام، إلى أن صار أمرٌ غريبٌ يحدُث مع صاحبنا، لم يعره التفاتاً في البداية، لكنه بدأ يستوقفه عندما تفاقم، فقد بدأ يشعر تلو كل بيان إدانة لـ"الإخوة الأعداء" بأن الحذاء صار أوسع قليلاً من قدميه. استغرب ما يحدُث، لأن المعروف أن الأحذية تضيق مع الزمن، لكن حذاءه يتّسع، فجرّب أن يستبدل الحذاء بآخر، لكن بلا جدوى، فلا يلبث أن يتّسع الجديد، أيضاً. حاول أن يتآلف مع هذا الوضع باستخدام الحشوات، لكن الحذاء كان يتّسع أكثر فأكثر، إلى أن أصبح منظرُه مثيراً للسخرية، وهو يجرّ قدميه على الأرض، من دون أن يجرؤ على رفعهما في أثناء المشي، خشية انفلات الحذاء.

أما الصدمة الحقيقية فكانت عندما اكتشف، متأخراً، أن حجم الحذاء لم يتغيّر، بل حجم قدميه هو الآخذ بالتصاغر. ثم اكتشف لاحقاً، وعقب كل بيان إدانة "شديد اللهجة" بحقّ "الإخوة الأعداء"، أن جسده برمّته راح يتقزّم، حتى صار أصغر من الحذاء نفسه. عندها أدرك صاحبنا معنى "دبلوماسية الحذاء" المقصودة عند إدلاء وزارات الخارجية العربية ببيانات الإدانة لإسرائيل. أدرك أن عليه أن يستعين بكثير من كتب الطلاسم والسحر والتعاويذ، لتفسير مثل هذه العبارات الغامضة، وقد تجوزُ الاستعانة بـ"شبّيحة الشوارع" أيضاً؛ لأن عبارةً على غرار "بأشدّ العبارات" تحتمل إيحاءاتٍ نابية من نوع التي تحذف في المشاهد التلفزيونية، وهي كفيلة بتنفيس غضب الشارع العربي الذي يحبّ هذا النوع من العبارات.

ومن ثمّ، لا أحد في وُسعه أن يدين "الإدانات" الرسمية العربية، لأنها تُتقن فن التعامل الدبلوماسي مع الأحداث الجلل، عندما تغلّف عباراتها بمثل هذا الغموض الذي يحتمل كل التأويلات. المهمّ أنها تؤدّي ما عليها، وتتخفّف من عبء المساءلات الشعبية عنما تصرّح: "ندين بأشدّ العبارات".

المهمّ، في الإدانة "شديدة اللهجة" أخيراً، كان الصحافيون بانتظار صاحبنا ليعتلي المنبر، لكنهم بوغتوا عندما رأوا حذاءً فقط يدخل القاعة ويعتلي المنبر، ويبدأ التصريح.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.