دبلوماسية الباندا وكأس العالم

20 نوفمبر 2022

أحد زوجي باندا أهدتهما الصين لقطر في حديقة خاصة في الخور (19/10/2022/ العربي الجديد)

+ الخط -

التقيا أخيراً. الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ، في جزيرة بالي الأندونيسية، عشية انعقاد قمة مجموعة العشرين خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وذلك بعد خمس محادثات افتراضية أو هاتفية بينهما منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض في مطلع عام 2021، وبعد ستة أشهر من الإعلان عن العمل على ترتيب لقاء شخصي بينهما، هدّدت انعقاده زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جزيرة تايوان في يوليو/تموز الفائت، ثم إجراء الصين مناوراتٍ عسكريةٍ بالذخيرة الحية في مضيق تايوان، للتعبير عن تمسّكها بضم الجزيرة إلى جمهورية الصين الشعبية، ولو بعد حين.

حدث ذلك بعد أيام فقط من حصول الرئيس الصيني على فترة ثالثة، غير مسبوقة منذ ثلاثين سنة، في قيادة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، ستقوده إلى فترة رئاسية ثالثة في مارس/ آذار من العام المقبل، وهي خطوة صينية تزامنت مع توزيع الإعلام الغربي صورة مرعبة عن الزعيم الصيني تقول ضمنياً إنه سيجعل الصين نسخة مكبّرة عن كوريا الشمالية، وسيكون هو نفسه نسخة أكثر تهوراً من زعيم بيونغ يانغ.

هل يهدّئ لقاء بايدن – شي من روع الغرب، ويحسّن صورة الصين؟ بالطبع لا! فالصورة الهمجية التي يجرى توزيعها حول الصين، وتشمل سلوك رئيسها، وبرنامجها في ارتياد الفضاء، وعلاقتها بمحيطها، وتطلّعاتها الدولية، غرضها بالتأكيد تشويه صورة الخصم الرئيسي والمنافس الدولي للمنظومة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وهو أمر نعرفه نحن العرب أكثر من غيرنا، إذ نسترجع صورة العربي الهمجي الإرهابي التي جرى توزيعها بدأب وتعمّد عقودا، خدمة لإسرائيل تارّة، واختراعاً لعدو احتاجته الماكينة الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تارّة أخرى.

قطر هي الدولة رقم 20 في العالم التي تستقرّ فيها الباندا الصينية خلال السنوات الخمسين الفائتة

بينما كانت تدور رحى هذه الأحداث التي تخيل بعضهم أنها تجعل العالم على شفا حربٍ مؤكّدة تبدأ باحتكاك عسكري بين الولايات المتحدة والصين في غرب المحيط الهادئ، كانت بكين تدفع زوجا من الباندا هدية إلى قطر بمناسبة تنظيمها كأس العالم 2022. استقرّ "سهيل وثريا" في الدوحة قبل أيام من افتتاح المونديال، ليعيدا التذكير بدبلوماسية الباندا التي تتبعها الصين مع العالم منذ 50 عاماً، أي منذ إهداء بكين زوجاً من الباندا إلى الولايات المتحدة في 1972، عقب زيارة الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون إلى بكين، التي تلت زيارة مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر (السرّية الشهيرة!) عام 1971، وافتتحت عهداً جديداً لحضور الصين الدولي استعادت بموجبه مقعدها الدائم في مجلس الأمن، ودشّنت علاقاتها الدبلوماسية مع واشنطن والغرب.

قطر هي الدولة رقم 20 في العالم التي تستقرّ فيها الباندا الصينية خلال السنوات الخمسين الفائتة، وهذا يعني أن الباندا، التي تعتبر رمزاً ثقافياً هاماً بالنسبة للصين، تمثل هدية نادرة وذات مغزى كبير في العلاقات الدولية، والمعنى من تقديمها إلى قطر في هذه المناسبة العالمية المهمّة أن الصين تواصل انفتاحها الدبلوماسي على العالم، الذي بدأته منذ إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح في 1978، ولا تدخل نفقاً جديداً مع الأحداث الأخيرة في شرق آسيا، ولا تنكفئ على نفسها لتتحوّل إلى كوريا شمالية كبيرة.

ذهبت أصوات كثيرة للقول إن إهداء زوج الباندا (جينغ جينغ ذي الأربع سنوات الذي بات يحمل اسم سهيل، وسي هاي صاحبة الثلاث سنوات التي حصلت على اسم ثريا)، يعبر عن المصالح التجارية والاقتصادية الواسعة بين الصين وقطر، ورغبة الصين بتوثيق علاقاتها مع دول الخليج عموماً ترجمةً لتطلعاتها السياسية. لكن الحقيقة على الأغلب أكبر من ذلك، فكأس العالم لا تُعدّ حدثاً عابراً في التاريخ، ليس بالنسبة للدولة المنظمّة وحسب، بل للعالم كله، إنه حدث يظل في الذاكرة، وتستعيده الأخبار عقودا، ويعدّ نقطة يؤرَّخ بها، وهذا يعني أن الصين تريد أن تستثمر هذه المناسبة العالمية التي يرتادها مئات الآلاف من مختلف الدول، وتنقلها شاشات التلفزيون إلى ملايين الناس في البلدان كافة، كي تقول للعالم إنها بلاد محبة للشعوب الأخرى، تقدم الهدايا، وتتبع الطرق الدبلوماسية، وتشارك الآخرين أفراحهم، وتفضل أن تمدّ الدول أيديها بعضها لبعض عوضاً عن أسلحتها المدمرة.

قدمت بكين زوجاً من الباندا هدية إلى قطر بمناسبة تنظيمها كأس العالم

وليس أدلّ على أهمية دبلوماسية الباندا الصينية من أن أكثر من عشرين ألف شخص زاروا زوج الباندا التي أهدته الصين للولايات المتحدة في اليوم الأول من ظهوره في حديقة الحيوان الوطنية في واشنطن في إبريل/ نيسان 1972، كما تقول "ويكيبيديا"، ثم زاره نحو مليون ومائة ألف شخص خلال السنة الأولى. ونتيجة هذا النجاح الباهر في جذب الأميركيين لرؤية أحد أهم رموز الثقافة الصينية، فقد طلب رئيس الوزراء البريطاني إدوارد هيث، في زيارته الصين عام 1974، الحصول على زوج من الباندا لحديقة الحيوان في لندن، واستجابت بكين لطلبه، ولقيت الباندا من اهتمام البريطانيين ما لقيته لدى الأميركيين.

اليوم، تريد الصين أن تقول إنها تواصل دبلوماسية الباندا التي تعبّر عن الصداقة مع شعوب العالم، وليس صحيحاً أنها تتحوّل إلى وحش شرس غير مسؤول، يعيث إفساداً في موارد الأرض والفضاء، ويهدّد سلام الكوكب واستقراره، كما يود الإعلام الغربي أن يقول. ومن الطبيعي ألا تجد الصين فرصة نموذجية مثل كأس العالم، تقام في منطقةٍ ليس بينها وبين الصين عداء سابق، كي ترسل مثل هذه الرسالة إلى زائري قطر من مختلف البلدان والشعوب. وبالطبع، قبول قطر هذه الهدية الصينية في هذه المناسبة العالمية العظيمة يعني إيمانها بأن الرياضة عموماً، وبطولة كأس العالم بشكل خاص، تمثل مناسبة للانفتاح بين الشعوب وتعارفها وتقريبها من بعضها، وصولاً إلى تعزيز السلام العالمي والوئام الإنساني.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.