خيبة من الغرب
على وقع الصواريخ الإسرائيلية التي تقصف غزّة وسقوط مزيد من الضحايا، تسرّبت نبرة الخيبة بين بعض الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي العراقي، من أثر الصدمة والشعور بالألم وانكشاف صورة التناقض بين "القيم" الغربية وخطاب المؤسّسات السياسية في كثير من بلدان الغرب.
تعدّلت الصورة قليلاً بعد مجزرة مستشفى الأهلي المعمداني، وصار الصوت الداعي إلى وقف القصف على غزّة أقوى، وسمحت السلطات هناك لتظاهرات داعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، كما في التظاهرات المهيبة في روما ولندن وغيرهما. ولكن نبرة خيبة الأمل ما زالت موجودة. والحديث هنا ليس عن الذين يتبنّون موقفاً أيديولوجياً مسبّقاً ضد الغرب، أو يتابعون خطاب الأحزاب السياسية التي "تستعمل" القضية الفلسطينية في خطابها الدعائي لنفسها داخل العراق، وتُزايد به على خصومها من السياسيين، وإنما عن الذين كانوا، حتى عشية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، من المؤمنين بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومجمل القيم الليبرالية، والتي يُنظر لها، بشكلٍ معتاد، أنها قادمة من الغرب.
التناقض الغربي، والذي يقف خلف الشعور بخيبة الأمل، أمر ليس عارضاً أو مؤقتاً، وقد فضحته الأحداث ليس إلا، ولكنه موجود وعميق الجذور، فالانحياز لإسرائيل ضد حقوق الشعب الفلسطيني ليس وليد البارحة، بل هو من الأسباب الرئيسة لتفاقم المأساة سبعة عقود. وسيُكتب الكثير في تحليل المواقف وردود الأفعال والخطابات التي صدرت من الغرب خلال أكتوبر الدامي هذا. ومن الممكن الافتراض، من دون كثير عناء، أن لحظة 7 أكتوبر ستكون مفصلاً لتغيّر قراءاتٍ كثيرة عن طبيعة الصراع في منطقتنا، وما هو الموقف الأكثر صلاحية تجاهها من مختلف الأطراف ذات الصلة بهذا الصراع. وما هو أهم في تحليل المواقف هذا هو البحث عن سبب التناقض ما بين "القيم" و"السياسات" التي فضحتها الأحداث الجارية، في محاولة لفهم الغرب أكثر، وتحديد مواقفنا منه من دون انفعالات أو مسبّقات أيديولوجية.
المؤذي الذي يمكن أن يذهب إليه الشباب الداخل في شعور الخيبة هو جمع القيم مع السياسات في سلّة واحدة، فالقيم قطعت طريقاً طويلاً من عمر التاريخ الإنساني حتى نضجت في الغرب بصورتها الحالية، وإن حملت بصمة الغرب، إلا أنها ليست منتجاً غربياً خالصاً، بل ساهمت في محطّاته المتعدّدة مختلف الشعوب والأمم. كما أن التاريخ البشري كان يتطوّر بارتحال الأفكار والقيم من إقليم الى آخر، وتوطّنها في بيئات جديدة يجعلها، مع تقادم الزمن، جزءاً أصيلاً من ثقافتها.
قرأت قبل عقدين تقريباً مقالاً عن الروائية الكاميرونية كاليكث بيالا، كان يثير موضوعة استعمال هذه الكاتبة مفردات من لهجات القبائل المحلية، وهي بالعشرات، داخل نسيج اللغة الفرنسية التي تكتب بها أدبها، فالفرنسية ثم الإنكليزية هما اللغتان الرسميتان في الكاميرون. كانت بيالا ترى أنها تعيد تشكيل اللغة الفرنسية كي تلائم ثقافتها هي، من دون أن تكون ملزمة باتباع الذائقة والمعايير في البلد الأم للّغة. وقد علّق نقادٌ فرنسيون بأن أدب بيالا يثري اللغة الفرنسية ويوسّع قاموسها.
أتذكّر هذه الأفكار دائماً، لأنها تبدو لي أكثر عمومية وشمولاً، وتغطّي مساحات عديدة من النشاط البشري، فالأفكار والأجهزة والمكائن والأغذية والملابس، وحتى الموسيقى وخطوط الموضة، كلّما ترسخّت أكثر في أرضٍ جديدة، ومرّ عليها زمن بدأت تكتسب سمات هذه الأرض ولا تعود متّصلة بقوّة بالمصدر.
لا يعني الإيمان بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بشكل تلقائي، الولاء للغرب. كما أن افتراض أن سياسات الغرب تنطلق بشكل حصري من قيمه المتحضّرة كلام لا معنى له، ففي السنة التي وضع فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هجّرت إسرائيل 800 ألف فلسطيني من أرضه، تحت سمع الغرب وبصره، واستمرّ الغرب حتى مع إقرار حقوق الحيوان وحق كوكب الأرض، وضرورة العمل على تقليل انبعاثات الكربون وما إلى ذلك، ظلّ هذا الغرب يخوض حروباً لا أخلاقية، ويمارس سياسات عدوانية واستعمارية ضد الشعوب الأخرى.
ولكننا، سكان العالم المعاصر، لا نملك فضاءً غير القيم الإنسانية، نمارس من خلاله نقدنا الأخلاقي ضد الغرب، الحامل المفترض هذه القيم، ونحدّد من خلالها مواقعنا، كأبناء المستعمرات الغربية السابقة، ضد استمرار التصوّرات الاستعمارية، بسلاح أساسي؛ قيم الغرب نفسها، وبالتضامن مع كيانات وتيارات عديدة داخل الغرب تؤمن بضرورة هذا النقد، سبيلاً أساسياً لدوام القيم الإنسانية وبقائها حيّة وصادقة.