خمسة وخميس
الخميس يومٌ جميل للكتابة عنه: الخميس العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، ماتت زهرة، بعد عمر طويل. لا شيء مميّز في الجملة غير تحديد يوم الخميس، كما يُمكن لوردةٍ أن تولد في خميسٍ ماطر، بعد مخاض طويل، ويمكن أن تموت فيه. أو هو فألٌ تتمسّك به الوردة من أجل الحماية؛ ففي الثقافة الشّعبية، الخميس رمز الوقاية من العين برمز اليد ذات الأصابع الخمسة، أو ما يُسمّى "خميسة" في المغرب. مثلما يُقال "خمسة وخميس" "لعينِ الحسود التي ينشكّ فيها عود".
في المشرق يُحتفل عادة بيوم الخميس، لأنه يسبق الجمعة بمدلولاته الدّينية، ولكونه بداية عطلة نهاية الأسبوع. لكنّني لا أتحدّث عن هذا، عن مفهوم السبت مثلاً يوماً يحظى بالمكانة نفسها في الثقافة الغربية والدول التي حذت حذوها في منح السبت مكانة اليوم المفضّل في الأسبوع، مثل معظم دول المغرب الكبير. بل يكتسي الخميس مسحةً خاصة، لأسباب مختلفة.
لعله وقعهُ على الأذن، لعلُّه توسطّه للأيام بالنسبة لنا، نحن الذين تحلّ العطلة الأسبوعية عندهم يومي السبت والأحد، فالخميس يعني اقتراب نهاية الأسبوع، وقرب التخلص من ضغوط العمل. وهو أيضا اقتراب الموعد النهائي لأي عملٍ أسبوعي. وغالبًا يخفّ الضغط وتتوضح الصور لنا بعده. عدا عن كونهِ يوماً خامساً، الرقم خمسة مقدّس، وله دلالات عظيمة في جلّ الثقافات. في اللغة العربية، يقال الخميس للجيش الجرَّار؛ سُمّي بذلك لأنه خمسُ فِرَق: المُقدّمة، والقلبُ، والمَيمنة، والمَيسَرة، والساقَة. وخَمِيس الناس هو جَماعتَهم. والجميل أن هناك "خميس" في الثياب والرياح، وهو ما طُولُه خمسة أَذرع. الأجمل هو جمعُه، الذي عُدّد إلى: أخامِس وأَخْمساء وأخْمِسة. لكنّ اسمه قبل الإسلام، وكما ورد في أشعار العرب، هو "مؤنِس". يا لها من تسميةٍ ومن رنينٍ في جمعها.
غنّى محمد عبده "ليلة خميس"، رغم أنني مغرمةٌ بأغنية عبد الرب إدريس "لو باقي ليلة"، وأفكر "لو باقي ليلة" في العمر ألن تكون "ليلة خميس"؟ .. لكن لماذا نفرح بأيام ونكتئب عندما نفيق في أخرى؟ يرجع معظم ذلك إلى الذاكرة البعيدة، وإلى أحداثٍ شهدناها وبصمت ذاكرتنا. والباقي يعود إلى روتيننا في تلك الأيام. مثلا يوم الاثنين مكروه عند بعض الموظفين الذين يفتقدون للرّضا الوظيفي؛ فمجيء أوّل يوم في العمل أمرٌ لا يبشّر بالخير، فيكون المرء أبأس فيه من آخره، رغم أن العكس هو المفروض بعد عطلة نهاية الأسبوع. يتعلق الأمر بحجم الضّغط الذي يرافق العمل، لا بحجم الراحة التي حصل عليها في نهاية الأسبوع.
على مرّ الأيام، نجد كتباً كثيرة عن الأيام، أو تحمل في عناوينها تلك الكلمة؛ أشهرها "الأيام" لطه حسين، "هارب من الأيام" لثروت أباظة، و"تلك الأيام" لأدهم الشرقاوي. لكني أحببتُ كتاب "الأيام" لإدواردو غاليانو، وألتقط منه يومين: الأول من كانون الثاني/ يناير، الزمن شديد اللّطف معنا، نحن الرّحالة العابرين فيه عبوراً سريعاً، وهو يمنحنا الإذن بأن نعتقد أنّه يمكن لهذا اليوم أن يكون الأول بين الأيام، وكي نعتقد أنه يومٌ بهيجٌ مثل ألوان محل خضار وفاكهة. وفي اليوم الثالث، الذي سمّاه الذّاكرة المتجوّلة، "اليوم الثالث من العام 47 قبل المسيح، احترقت أشهرُ مكتبةٍ في الأزمنة القديمة. غزت الجيوش الرومانية مصر، وخلال إحدى معارك يوليوس قيصر ضد شقيق كيلوباترا، التهمت النيران القسم الأكبر من آلاف وآلاف لفائف البردي في مكتبة الإسكندرية".
لا يحضرني أي خميس محدّد في حياتي، وعادة أجد يومي يتحسّن ابتداء من الأربعاء، وأحياناً تفقد الأيام معناها كما يحدُث لمعظم الصّحافيين؛ فأنت تعمل في نهاية الأسبوع وبداياته وكل يوم، وكل مهّمة تبدأ في يومها الخاص، الذي قد يكون في بدايته أو نهايته. الحدث يحكُم لا أنت.
الخميس يوم جيّد ليموت المرء فيه، مثلاً أن يكتب أحدهم نعياً عنك، يبدأه: في خميس ماطر، فارقتِ الحياة عن عمر الثمانين. بعد حياةٍ مديدة في اكتشاف أنواع جديدة من النباتات، أو جمع الحشرات في مرطبانات، وتسجيل حركاتها يوميّا. بسبب ذلك، عاشت حياة طويلة، من الصّحة الجيدة، لن تعيشها برفقة نكد البشر.