خطوة إلى الخلف في تونس

27 يوليو 2022
+ الخط -

يُنجز الرئيس التونسي، قيس سعيّد، منذ توليه الحكم في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وبشكل خاص، عقب تفرّده بالحكم منذ يوليو/ تموز 2021، المعنى نفسه الذي أنجزه الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر منذ يوليو/ تموز 2013، رغم اختلاف الطريق والإيقاع. هذا المعنى هو نزع أو عكس آليات توضع نظام ديموقراطي يقوم على تعدّد مراكز القوة فيه وتكاملها، لصالح آليات عودة النظام القديم. ويستفيد سعيّد، كما استفاد السيسي قبله، من الآلام السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق الانتقال من نظام الرجل القوي ونخبته المتعالية على القانون، إلى نظام المؤسّسات القوية وحكم القانون. والحقيقة أن هذه الآلام التي لا يمكن تفاديها في بلداننا تشكل الخاصرة الرخوة لأي محاولة بناء نظام سياسي عندنا بحدود معقولة من المعايير الديموقراطية.

كيف يمكن أن نحمي عملية تمكين آليات ديموقراطية في بلد ذي دولةٍ مبنيةٍ على الاستبداد المزمن، وفي مجتمع تسودُه عموماً ثقافة غير ديموقراطية، حين ستترافق هذه العملية، بشكل لا مهرب منه، مع اضطراباتٍ سياسيةٍ وتدهور في مستوى المعيشة، في حين يسود تصوّر بسيط ينظر إلى الديموقراطية على أنها دواء سريع وناجز، ويحمل معه الرفاه والازدهار، وليس علينا سوى "إسقاط النظام" كي نتنعّم بخيراتها. هذه النبتة الغضّة (تمكين آليات حكم ديموقراطية) التي تحتاج إلى رعاية وحماية، تجد نفسها، لذلك، معرضة لسخطين، سخط أصحاب المصلحة فيها (الشعب) الذين يستعجلون ثمارها الناضجة قبل أن تضرب جذورها في الأرض، وسخط أعدائها في المصلحة (أهل النظام القديم، سواء أصحاب المصلحة فيه أو أصحاب الوعي المحافظ) الذين يمتلكون وسائل اقتلاع النبتة قبل أن تتمكّن، مستفيدين من ضعفها ومن السخط الشعبي حولها. خلال هذه الفترة، يكون الجيش، وأجهزة الأمن بصورة أساسية، بوصفهما جهازين مطبوعين بالتسلط ومعاديين "غريزياً" للمشاركة والتعدّدية السياسية، سلاحاً جاهزاً لضرب السياق وعكس آليات بناء الديموقراطية، أكان ذلك بمبادرة مباشرة من قيادته كما حدث في مصر، أو بمبادرة من رئيس منتخب ذي نزوع تسلّطي، كما يحدث في تونس.

حين انقلب الجيش في مصر في يوليو/ تموز 2013 على رئاسة منتخبة، مهما كانت تلك الرئاسة هزيلة ومرتبكة، فإنه دمّر مساراً كان المسار الوحيد الذي يمكن أن يحمل بذرة مستقبل سياسي معقول في بلداننا. نقصد مسار تواضع نظام سياسي مرن قادر، بصورة دائمة، على إصلاح ذاته، لأنه يمتلك مرجعية عامة (الجمهور) وإجرائية (انتخابات)، ويمتلك آليات داخلية متفقاً عليها لحل التعارضات التي تنشأ بين مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية خلال إدارة البلد. في مثل هذا النظام، يكون للقانون حضور حاكم، وتجد التيارات السياسية وسيلة صراع سلمية (حرية النشاط والتعبير وأشكال الاحتجاج السلمية الممكنة) توفر على المجتمع الانفجارات التي تنتهي غالباً إلى العنف.

الطريف أن قيس سعيّد الذي نظّم استفتاء لتمرير "دستوره"، كان قد كتب، أن الاستفتاء هو إحدى أدوات الديكتاتورية المتنكّرة في بلداننا

لا نتوهم أن المسار المذكور خالٍ من المنزلقات والمخاطر واحتمالات الفشل، مثل سعي الرئيس المنتخب و"جماعته" إلى أن يستأثر بالحكم وأن يستخدم السلطة التي وصل إليها بانتخابات معقولة النزاهة، لكي يكبّل خصومه ويلغي مبدأ الانتخابات أو يحيله إلى إجراء شكلي بعد أن يستحوذ على مفاتيح السلطة ويثقل على نفوس خصومه السياسيين إلى حد الخنق. أو يمكن أن يفشل الرئيس المنتخب في ضبط أجهزة دولة مبنية أساساً على مبدأ مركزية السلطة وقداستها، وفيها كتلة بيروقراطية ذات مصالح تتعارض مع الديموقراطية، فينتهي الحال إلى ما يشبه تعطل الدولة، وإلى ما يقارب الفوضى التي تجعل الناس يكفرون بالرئيس المنتخب ويترحّمون على زمن الزعيم الأوحد القوي. ويمكن أيضاً أن يتم حصار المسار الديموقراطي من الجوار الإقليمي غير الديموقراطي، بطريقة تؤثر على اقتصاد البلد وتتسبّب بهبوط مستوى معيشة الناس، هذا فضلاً عن أن الحريات الديموقراطية التي سوف يوفرها النظام، يمكن، بل من المرجّح، أن تدفع الناس إلى شتّى صنوف الاحتجاجات التي سوف تساهم في عرقلة الحياة الاقتصادية في بدايات تموضع النظام، ما يعزّز تدنّي مستوى المعيشة، ويبرز صورة غير جذّابة للجمهور، فتبدو الديموقراطية، على هذا، مزيجاً من الفوضى والفلتان وانخفاض مستوى المعيشة، الأمر الذي يغذّي نوستالجيا شعبية إلى القبضة الحديدية، ويمهد الأرض لعودة النظام القديم.

كان انتخاب سعيّد رئيسا في تونس، في الأصل، نوعاً من الانسياق "الشبابي" النزق وقصير النظر وراء الوصفات السريعة الموهومة: يمكن لرجلٍ نزيه وعنيد ومناصر للثورة ومستقل عن الأحزاب السياسية التي لا تعرف سوى التصارع فيما بينها، وهو فوق ذلك رجل قانون، أن يحل المشكلات إذا وصل إلى المركز الأول في الدولة. أحد أنصار سعيد، وهو من الشباب الذين كان لهم دور بارز في الثورة على زين العابدين بن علي، يرى أن وجود سعيّد "على رأس الدولة هو في الأساس اختطاف الدولة لصالح الثورة"، كيف يمكن لاختطاف الدولة أن يكون في صالح الثورة، إلا إذا كانت الثورة تعني فرض الخيارات على الناس. وفي المقابل، يشكو زعيم حركة النهضة (الإسلامية)، راشد الغنوشي، من سعي أنصار سعيّد إلى شيطنة الثورة. ينظر الغنوشي إلى نفسه، إذن، على أنه ممثل الثورة، الكلمة التي باتت محط تنازع، والخاسر الأكيد فيه هم الناس الذين يفترض أن تعود الثورة عليهم بالخير.

كان انتخاب سعيّد رئيساً نوعاً من الانسياق "الشبابي" النزق وقصير النظر وراء الوصفات السريعة الموهومة

الطريف أن الرئيس التونسي نفسه الذي نظّم استفتاء لتمرير "دستوره" الذي يركز السلطات بيد الرئيس، ويفتح له إمكانية تمديد ولايته، كان قد كتب، حين كان أستاذاً جامعياً وخبيراً دستورياً، أن الاستفتاء هو إحدى أدوات الديكتاتورية المتنكّرة في بلداننا، وكان يكرّر رغبته في أن يرى، ولو مرّة واحدة، استفتاء يقول الشعب في نتيجته لا. لكن سعيّد نفسه يعرض في الرئاسة نموذجاً لمن كان ينتقدهم حين كان خارج السلطة.

يمكن الإيجاز بالقول إن مشكلة الانتقال الديموقراطي في بلدان الاستبداد المزمن تكمن في ترافق العملية مع اضطرابات وانخفاض في مستوى المعيشة، وفي غياب القوة التي تحمي هشاشة هذه العملية، ذلك أن الناس الذين من مصلحتهم استمرار عملية الانتقال يحملون وهماً يصوّر العملية أنها سهلة وسريعة، وأنها باب إلى الدخول في النعيم. ولذلك يصابون بالإحباط وينقلبون على العملية ويساندون المنقلبين عليها. شهدنا ذلك في مصر، ونشهده اليوم في تونس، وتسعى إليه الطغمة العسكرية السودانية، ولكن بصعوبة أكبر، نظراً إلى وجود منظمات جماهيرية وسيطة تملأ الهوّة بين المستوى السياسي والشارع، وتؤمّن حضوراً شعبياً مثابراً يفرض نفسه بثباتٍ على المستوى السياسي. ويبدو لنا أن مثل هذه التشكيلات تشكّل جسراً مهماً لعملية الانتقال الديموقراطي.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.