خطاب العرش في المغرب أفق انتظار سياسي داخلي
تتطلّع النخبة السياسية المغربية، في مركز القرار أو في غيره من فضاءات السلطة أو ممانعتها، إلى لحظة خطاب العرش الذي يتزامن مع 3 يوليو/ تموز من كل سنة، بأفق انتظار واسع يبدأ من ملفات الموقع الجيو ـ استراتيجي للمغرب، ويمتد إلى وضعية النساء الأرامل، مروراً بالطاقة والاقتصاد والشراكات الاستراتيجية والتعليم وقضايا المجتمع.
بيد أن المغاربة، في غالبيتهم، ينظرون إليه من زاوية ثنائية لا تنفصل. تتعلق الأولى بالقضية الوطنية الأولى، الصحراء، وكل ما يتساوق مع طرحها: العلاقات الدبلوماسية، الشراكات الجيوسياسية، المواجهات المؤسّساتية في ردهات التنظيم الدولي الأممي، إلى غير ذلك من مواقف تهم الجوارين القريب والبعيد. وتتعلق الزاوية الثانية بالمعيش اليومي، وما يتطلبه من قرارات اقتصادية وسياسية واجتماعية، يبادر إليها الملك في اللحظات الحاسمة من حياة المجتمع. وفي التواتر نفسه، يمكن أن نتحدّث عن تقييم الملك العمل الحكومي، والمؤسّساتي عموما، في ضوء ما يُتوافَق عليه أو ما يدعو إليه الملك شخصياً، من قبيل الدولة الاجتماعية، ومدى تحقق قواعدها التأسيسية، والسيادة الغذائية والطاقية والمائية، والإصلاحات ذات الصلة بالمرأة والثقافة والبنيات الحقوقية وتأهيل التعبير المؤسساتي عن حضور مغاربة العالم (الجالية المغربية في الخارج) في الهندسة المؤسساتية للحكامة المتعلقة بها.
وفي قلب هذا النسيج، يتبيّن للدارس أو صاحب القرار السياسي، البعد الذي يعطيه العاهل المغربي للمسؤولية وربطها بالمحاسبة. ليس فقط من زاوية احترام بند دستوري حديث العهد بالتنصيص، يرد منذ 2011 في هذه الوثيقة السامية، بل لارتباطهما (المسؤولية والمحاسبة) بالتمثيلية السياسية، أي بوصول الأحزاب إلى السلطة تحديداً عبر الحكومة وعبر المؤسسات التمثيلية. ومن هذا الباب يكتب محمد الطوزي إضاءة لافتة للغاية، وهو أستاذ، باحث وفاعل سياسي ممن ساهموا بقسط وافر في التفكير في صياغة الدستور الجديد، باعتباره عضواً من بين آخرين من اللجنة التي كلفها الملك صياغة الدستور ومناقشته مع الطيف الوطني المغربي، وباعتباره من الدارسين العميقين لطبيعة الدولة في المغرب (30 سنة)، تكللت بصدور كتابه الفريد "حياكة الزمن السياسي في المغرب، والمخيال النيوليبرالي للدولة"، في المغرب الأقصى. يكتب محمد الطوزي "مسألة التمثيلية تناسبنا دقتها فقط للتفكير في السلطة وعمليات شَرْعنة نفسها، بل إنها ضرورية لفهم معنى المسؤولية". وبطبيعة الحال، لا تستقيم هذه المسؤولية إلا إذا أطّرتها المحاسبة، كما يجب أن يكون في دولة أوجدت لنفسها تشريعاً دستورياً يربط بينهما.
يكون الخطاب نموذجياً في الدقة السياسية ووضوح الرؤية، ويكون دوماً موضوع تحليل ومتابعة دقيقة، من حيث القاموس والاختيار اللغوي
ومن هذه الزاوية، يكون خطاب العرش، حسب صاحب "الملكية والإسلام السياسي" لحظة مهمة، فهو يكتسي "وضعاً اعتبارياً كخطاب موجّه إلى الأمة"، وخطاب يعمد فيه الملك إلى "وضع حصيلة السنّة السياسية، للإخبار، والتقييم، وعرض، بصيغة من الصيغ، نيّاته". ولهذا يخضع خطاب العرش (يتحدّث إخواننا المشارقة عن خطاب الجلوس) في تحريره إلى عناية فائقة بذلك "فهو خطاب لا يخضع بأي حال من الأحوال للارتجال". وعادة ما يكون محرره موضوع تمرين جماعي أو فردي للتخمين بشأن القلم الذي حرّره، ويعتبر ذلك من مواضيع التحليل التي تستأثر بآراء جزء من المحللين والنخبة في المغرب. ولعل ذلك لا يقتصر على فضول سياسي أدبي وصحافي، بقدر ما يعكس محاولة معرفة الشخصية القادرة على "التقاط المناخ الراهن والهواء الذي يتنفسه الملك"، والقدرة على "سكّ العبارات التي تترجم الأفكار" المقدّمة من الفاعلين السياسيين والمؤسَّساتيين "سواء كانوا من الخدّام المتحمّسين زيادة، أو رجال الدولة النزهاء، مصلحين كانوا أو محافظين"، علماً أن الكل فيهم يسعى لأن يمنح غير قليل من القوة عبر ورود أفكاره في الخطاب الملكي، باعتبار الأخير مصدر طاقة سياسية للجميع.
وبلغة أخرى، يكون الخطاب نموذجياً في الدقّة السياسية ووضوح الرؤية، ويكون دوماً موضوع تحليل ومتابعة دقيقة، من حيث القاموس والاختيار اللغوي، كما من حيث الأهداف والسياسات، قطاعية كانت أو استراتيجية شاملة. وفيه يجد المتابعون، وهم ليسوا مغاربة فقط، "روح اللحظة"، وأحيانا ما يليها من توقعات. ولهذا ليس سرا أن الجميع، ينتظر أن يجد فيه "نفسه"، مؤسّسات وأفرادا، مجتمعا مدنيا وحكومات، شركاء إقليميين أو دوليين. وكل الفاعلين السياسيين يبحثون فيه عمّا يرفع من مساهماتهم أو يخفضها، صادقين كانوا أو غير صادقين.
كان المغرب نقطة تقاطع سياسي، من زاوية حقوقية جيوسياسية عرفت أوجها أمام البرلمان الأوروبي
لا يغيب عن المحلل السياسي أو المهتم أن جزءاً من التجارب، وأحياناً الصراع المفتوح بين المؤسّسات، ترتفع حرارته كلما اقترب هذا الموعد السياسي عالي الضغط والقوي بالدلالة. ومن هنا، قد نضع السجال الذي دار بين مؤسّسة المجلس الأعلى للحسابات والحكومة المغربية برئاسة أحد رجال الأعمال الأثرياء ضمن هذا الأفق. ومن الزاوية ذاتها، تجري مقاربة "معنى المسؤولية"، فقد كان المجلس الأعلى للحسابات موضوع نقاش حادّ في الأوساط السياسية، ولا سيما بعد تقديم تقريره الحاد بشأن المالية العمومية التي تكون رهن إشارة تدبير (إدارة) المنتخبين من مختلف الأحزاب. ولعل الذاكرة عادت بالجميع إلى خطاب العرش لسنة 2017، الذي تزامن مع قرابة سبعة أشهر من الحراك الاجتماعي في الريف، والذي شدَّ أنفاس المغاربة، حاكمين ومحكومين. وهو خطابٌ تعود ظلاله كلما ظهر عجز الجهاز التنفيذي عن تدبير سلسلة من الأزمات "أو معاينة الفشل الذريع للوسطاء السياسيين والاجتماعيين والنقابيين والمدنيين، وهو الفشل الذي يرمي بظلال الشك على جزءٍ من الهندسة التقليدية في حل التمرّد" الجماعي على مستوى التراب الوطني المغربي. وقد عاش المغاربة هذا التضادّ عبر ثنائية الجهاز التنفيذي والمندوبية السامية للتخطيط، وقد كانت موضوع خطاب ملكي في عام 2021، حيث دعا إلى تقوية التنسيق بين السياسات العمومية وتنفيذها، وربط ذلك بإجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط، لجعلها آلية للمساعدة على "التنسيق الاستراتيجي للسياسات العمومية ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي الجديد"، وهي مهمة ليست سهلة بالمرّة.
إلى جانب ذلك، كان المغرب نقطة تقاطع سياسي، من زاوية حقوقية جيوسياسية عرفت أوجها أمام البرلمان الأوروبي، وتدليس فرنسا على نزاع الاستراتيجية مع المغرب بالقضية الحقوقية. وفي قلب ذلك، وجدت القضية الإعلامية مركزها في الاهتمام المغربي، ما يجعلها ضمن أفق الانتظار الذي نتحدّث عنه، في سياق التأهيل العام لقطاعاتٍ عديدة، من زاوية التجويد، لا من زاوية التفنيد.
توجد قضية تقوية مناعة المغرب الداخلية بضمان سيادته المتعدّدة الأبعاد، ولا سيما تهديد الماء واستكمال مقومات الدولة الاجتماعية وإيجاد الثروة المستدامة
وقد كتب العبد الفقير لرحمة ربه في الأفق الجماعي المغربي أن الوقت مناسب للمغرب لتقوية مناعته المؤسّساتية عبر استكمال البناء الدستوري في القطاعات التي يجب فيها ذلك، كما هو حال مؤسّسات المناصفة وتعديل المدونة وتأهيل ما هو موجود منها، ولا سيما ضبط تكامل المؤسّسات في ما بين الحكومة والحكامة، بعد التعبير الصريح للجنة النموذج التنموي عن تجويد الأداء المؤسّساتي وتقليص مناطق العتمة في العلاقات بين المؤسّسات. كذلك، إن أفق الانتظار والخالي لا يلغي الجدلية مع الخارج، بحيث يكون الوقت مناسباً كذلك للدعوة مجدّداً إلى أصدقائه الكلاسيكييين في أوروبا وغيرهم في الدائرة الأنغلوساكسونية للقيام بالخطوة الحاسمة في دعم سيادة المغرب على صحرائه، ومن أجل رفع ظلم أممي يمارس في حقه وحده من بين كل الدول منذ الستينيات من القرن الماضي، متمثلاً بوجود قضية الصحراء في هيئتين من هيئات الأمم المتحدة، مجلس الأمن والجمعية العامة، عبر اللجنة الخاصة (24)، وتجديد الدعوة إلى تجاوز الاحتقان في المنطقة المغاربية، من موقع القوة والحكمة معاً.
ومن نقاط الترقب التي ترد منذ ثلاث سنوات على الأقل في الانشغال الملكي، توجد قضية تقوية مناعة المغرب الداخلية بضمان سيادته المتعدّدة الأبعاد، ولا سيما تهديد الماء واستكمال مقومات الدولة الاجتماعية وإيجاد الثروة المستدامة، من أجل "توازي السيادات"، سيادة التراب وسيادة الإنسان. وقضية الجالية في الخارج التي أصبحت تسترعي تقديم النموذج الأمثل في استثمار الثروة البشرية والعلمية والثقافية لمغاربة العالم التي أثبتت انخراطها الرمزي والمادّي، ومنه الرياضي، في أفق عاهل المغرب محمد السادس، كما كانت هي بدورها موضوع خطاب ملكي ينشط تفعيله المادي الملموس.