خسرت مصر وفاز الفراعنة

13 فبراير 2022

لاعبون من منتخب مصر في المباراة مع السنغال في الكاميرون (6/2/2022 فرانس برس)

+ الخط -

تمنّيت أن يفوز منتخب مصر ويخسر منتخب الفراعنة، في بطولة الأمم الأفريقية التي احتضنت رحاها ساحة الكاميرون، أخيراً، لا لشيءٍ سوى لأنّي أستريب بأهداف النبش التاريخي في أرض الكنانة عن الجذور المنبتّة، وجعلها هوية بديلة للشعب المصري الذي يعتزّ بعروبته وتاريخه القريب، لا البعيد، غير أنّ العكس هو ما حدث، فقد خسرت مصر وفاز الفراعنة فعليّاً.

وللفوز ما يبرّره في الواقع؛ ذلك أنّ مصطلح "الفراعنة" لم ينشأ عن اعتزاز بالجذور، بل جاء تملّصاً من استحقاقات العروبة. بدأ رواجه إبّان حكم الرئيس أنور السادات في سبعينيات القرن المنصرم، عندما قرّرت الدول العربية مقاطعة جمهورية مصر العربية، إثر زيارة السادات المباغتة تل أبيب، بحثاً عن "السلام"، وما تلاها من انفراد مصر بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وخروجها، فعليّاً، من ساحة المواجهة مع إسرائيل. آنذاك، قوطعت مصر، سياسيّاً ودبلوماسيّاً، ونقل مقرّ جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وبدا كأنّ مصر غدت جزيرة معزولة عن محيطها العربيّ.

لم يكن الهدف المعلن آنذاك نبذ الدولة المصرية وإخراجها من الصفّ العربي، بل كان الحصار محاولةً لثني السادات عن مغامرته غير محسوبة العواقب؛ إذ كان في حسبان دول المقاطعة أنّ تلك القرارات كفيلة بإعادة النظام المصريّ إلى رشده وردعه عن الانفراد بسلامٍ لا يحقق العدالة للعرب والفلسطينيين، غير أنّ ردّة فعل السادات جاءت لتحمل ضروباً متعدّدة من النكايات بالعرب والعروبة، ومنها بالطبع، إبراز مصطلح "الفراعنة" في محاولةٍ لـ"فرعنة" مصر وتنقيتها من شوائب تاريخها "الوسيط" بمحمولاته الإسلامية والعربية، فسادَ هذا المصطلح، وأصبح مهيمناً في الإعلام المصري، ولم يكن مستغرباً انتقاله إلى المؤسّسات الأدنى، كالمنتخبات الرياضية، ومنها منتخب كرة القدم، بالطبع. وفي المحصلة، غدا "الفراعنة" مصطلحاً سياسيّاً، توظفه مؤسسات الحكم، تبعاً لموجات المدّ والجزر في علاقاتها العربية والإسلامية؛ إذ يلاحظ، مثلًا، كيف شهد انحساراً إبّان موجة ثورة الربيع المصرية وما تلاها من حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، في عهده القصير، قبل أن يبرز المصطلح مجدّداً في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي استأنف ما انقطع من عهدي حسني مبارك والسادات. والسبب معروف.

كان مفترضاً، بعد عودة مصر إلى حاضنتها العربية، أن يتقلّص توظيف هذا المصطلح "السياسي" للترميز إلى مصر العروبة، غير أنّ ذلك لم يحدُث، بل أصبح شائعاً على اللسان الشعبي، أيضاً، لأنّ الناس "على دين ملوكها" غير أنّ الخطورة تكمن في استبعاد "التاريخ الوسيط" الذي كان يفترض أن يدمغ الهويات العربية برمتها، كونها اشتركت في صنعه معاً، وتفاعلت في نسج مراحله.

لا أظن أحداً سيعترض لو سمّي المنتخب المصري، مثلاً، منتخب "المماليك"؛ لأنّ الصفة هنا ذات محمولاتٍ أقرب إلى الوجدان المصري الذي يحتفي بهويته الإسلامية، ولكون المماليك المسلمين حكموا مصر، طويلاً، وسطّروا مفاخر في مقارعة المغول.

والأخطر، أيضاً، أن ثمّة مؤسسات حكم عربية بدأت تتبنّى النهج ذاته، وأعني به محو التاريخ الوسيط، والنبش في مقابر ما قبل الميلاد، وإن تسترت عبر بواعث "سياحية"، ففي الأردن مثلاً، ثمّة محاولات لـ"تنبيط" الهوية عبر الاحتفاء بمآثر الأجداد النبطيين، مقابل استبعاد سائر الهويات التاريخية الأخرى، فلا أحد يأتي على ذكر الأمويين أو العباسيين، أو العثمانيين. وفي العراق يحتفى بالسومريين، على حساب العباسيين. وفي المغرب العربي بـ"البربر" على حساب "الموحدين". وربما يعزى ذلك إلى تزعزع الثقة بالهويتين، العربية والإسلامية، في ظل ما تشهدانه من انكفاء وتمزّق، وهزائم أيضاً. غير أنّ ذلك كله لا يبرر طمس تاريخ طوله 1442 عاماً، وعرضه إمبراطوريات جاوزت السحاب، جغرافيّاً وحضاريّاً.

إلى ذلك، لا يستبعد أن نشهد عمّا قريب مباريات "غير ودّية" على الإطلاق بين منتخبي "الفراعنة" و"الأنباط" أو بين منتخبي "البربر" و"بابل" وربما يكون "النمرود" حاضراً ليعاود حرق الجميع، ما دام يستهوينا نبش القبور.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.