خرس السياسة في معرض القاهرة للكتاب
تعدّدت معارض الكتاب العربية، ولا يكاد يخلو منها بلد، بل مدينة عربية، وصارت مواسمها المتتابعة من بيروت إلى الدوحة إلى الدار البيضاء إلى الرياض تشكل الأرض الأهم للثقافة العربية ومنتوجها الفكري المتشكل بين دفتي كتاب. لكن يظل لمعرض القاهرة الدولي للكتاب مكانته بينها، ليس وحسب لكونه الأول عربيا من حيث النشأة (دورته الأولى في 1969)، فيما تنعقد دورته الثالثة والخمسون هذه الأيام، وليس لأنه الأضخم بعارضيه الذين يتجاوزون الألف ناشر عربي ودولي، وبحجم صناعة النشر المصرية الكبير التي يستند إليها، ولكن لأنه، منذ نشأته، ظل تظاهرة ثقافية عربية جامعة، يتلاقى في إهابها مثقفو العرب ومبدعوهم، حتى كان بالإمكان أن ترى من خلاله بوصلةً لحال الثقافة العربية.
وليس الحديث عن حال الثقافة العربية الراهن سارّا في العموم، ويزداد القلق بخصوصه، حين نرى ما يحدث في معرض القاهرة هذا العام، إذ يظلّله شعار "هوية مصر: الثقافة وسؤال المستقبل". تحت هذا الشعار اللافت تدار فعاليات فكرية عديدة، تزعم الإجابة باسم المستقبل، فيما تتجاهل معطياته. صخب الهوية المطروح لم يمنع من ملاحظة الهيمنة الأمنية على المعرض، والتي تنعكس بحدّة متزايدة في إحجام الناشرين عن نشر أي كتبٍ تتعلق بالوضع السياسي الداخلي في البلاد. وهو أمر مستجدٌّ في السنوات الماضية، فقد كانت سلطة الاستبداد في عهد حسني مبارك تتسامح في النشر إلى حد كبير، سواء لأنها لم تكن ترى للكتاب وللمثقفين في العموم أثرا يهدّدها، أو أنها تسامحت ضمن إطار ما عرفناه باسم "الهامش الديمقراطي". وبالطبع، لم يكن ديمقراطيا بحال، إنما فضّل مبارك أن يوحي للخارج بانفتاحه وقوة نظامه، فجعل استبداده مقننا، غير مشاعي أو شامل، بعكس ما نراه اليوم (اللعنة على من اضطرّنا أن نرى في عهد مبارك الكئيب ميزة).
مخاوف باتت تكتنف الناشرين، وتدفعهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية، لتُضاف إلى الرقابة التقليدية التي تفرضها السلطة الأمنية
حين نقلت هذه الملاحظة إلى أصدقاء منخرطين في صناعة النشر، فسّر أحدهم الأمر بتلك المخاوف التي باتت تكتنف الناشرين، وتدفعهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية، ولتضيف إلى الرقابة التقليدية التي تفرضها السلطة الأمنية. واختلف آخر، نافيا عن الناشرين المسؤولية عن هذا الوضع، إذ لا تصل إليهم من الأصل نصوص من المؤلفين (باحثين وأكاديميين وكتّاب) تتناول أوضاع الداخل وقضاياه، ورمى بتفسير ممارسة الرقابة الذاتية على المؤلفين أنفسهم. وقلت لهما إن لا مجال لإسناد المسؤولية عن هذا الوضع المزري لأيٍّ من الناشر والمؤلف، وما نراه من حال الثقافة منزوعة الدسم، والمداولات الفكرية المتصاخبة، والمحرومة من الاشتباك مع الأوضاع السياسية، المسؤولية عنه برقبة من صنع هذا الخوف.
لا يعمى أي متابع للشأن السياسي في مصر منذ 2013 عمّا أسمّيه "إخفاء السياسة". وفي سياق تحريمها، بات المجال الفكري سوقا لا تمرّر فيه سوى عملة المديح، وكتابات مهمتها الدعاية الفجّة للنظام، والإلهاء عن قضايا المواطن، وبخاصة الحريات السياسية. وفي الثقافة، يفضح مناخ الخوف حالة التهديد المستمر التي يستشعرها الناشر والمؤلف، بعدما جعلت مؤسسات الرقابة الفكرية موضوعات السياسة الداخلية محرّما فكريا، ينال من يجترئ على الخطو فيه أشد العقاب. وثمّة ناشرون في السجون، فقط لأنهم نشروا كتبا.
السياسة الثقافية المؤمننة، والتي تطرح بصيغتها القديمة، تستعير لسان المثقف لترسّخ من خلاله شعور المواطنين بالتهدّد والمؤامرة
فُرض على الثقافة في مصر مناخٌ يستعيض عن قائمة المحرّمات السياسية بافتعال جدالات فارغة، على شاكلة ما يتورّط فيه معرض هذا العام، ويعكسه برنامج ندواته. ولا تسأل: لم يعاد طرح سؤال الهوية، وكأننا ارتددْنا إلى بداية التسعينيات، وداهمتنا موجة العولمة؟ وإن تغاضينا عن رجع الزمن، سنلقى المقاربة الراهنة قد عمدت إلى تجاهل ما يخصّ حامل الهوية المطروح بشأنها كل هذا الجدل، ويبرز السؤال: أين المواطن؟ السؤال موجّه إلى المثقف الذي يتصدّر هذا الصخب، ويمارس لعبة الاستعاضة الفكرية المفتعلة التي يوحون، في ظاهرها، بوجود السياسة، فيما حقيقتها مغيبة تماما.
السياسة الثقافية المؤمننة، والتي تطرح بصيغتها القديمة، وتستثمر خبرات حصار الثقافة المتراكمة عبر عهود دولة يوليو، تستعير لسان المثقف لترسّخ من خلاله شعور المواطنين بالتهدّد والمؤامرة وضياع الدولة، وتتركهم أمام خيار حدّي في صيغة ثنائية جامدة؛ أتختار، أيها المواطن، الدولة وإنقاذها من المخاطر التي تهدّد هويتها ومقدّراتها ووجودها، أم ستروح إلى اختيار السياسة وصداع المشاركة وحرية التعبير والانخراط في الممارسات الموصوفة بالديمقراطية؟
لماذا تستمر تلك اللعبة التي تصوّر السياسة خطرا وجوديا على الدولة؟ الإجابة ببساطة لأنها قد أثبتت جدواها في إدامة هيمنة بيروقراطيات الأمن القومي على القرار السياسي، ومكّنت من تعميم ذهنية كراهية السياسة، ونبذ التفكير الحر، والنفور من أن يصل صوت الناس إلى من يحكمونهم بطريق عقلاني، مسموحٌ فيه النقد والرأي!
أجهزة القمع الفكري، الإعلامية والثقافية، تعي أنها تُكمل بعملها عمل هراوة الأمن الثقيلة
ليس إخفاء السياسة وحسب في قصر المجال السياسي على أحزاب الأجهزة الأمنية التي توحي بتمثيل مصالح المواطنين، فيما تعبر عن مصالح الأقلية المهيمنة على السلطة والثروة، وليس من ممثل لأهل الهامش (يكاد يسكن المجتمع كله باستثناء قلة محدودة هذا الهامش) سوى المؤسسات الأمنية. تقوم هذه المؤسسات، على طريقتها، بتمثيل مصالح القطاع الأعرض من المواطنين بعد ضبطها وتقليمها، لتوائم فتات ما تسمح به قسمةٌ منحازة لفئات الهيمنة. ونلمح كيف يرافق القمع الفكري أعجوبة التمثيل الأمني لمصالح الجماهير. وهو قمعٌ يعيق أي نقد، ويعرقل أي صياغة لمطالب حقيقية أو بتمثيل سياسي حقيقي لهؤلاء المغبونين المهمّشين. أجهزة القمع الفكري، الإعلامية والثقافية، تعي أنها تُكمل بعملها عمل هراوة الأمن الثقيلة. لذا تنشط في إنتاج خطاب مزدوج، يعيد إنتاج سرديات الأمن القائمة على التفزيع وبث الخوف من الخطر والمؤامرات في تلفيقاتٍ فنيةٍ وفكرية، جنبا إلى جنب مع سرديات التعمية والإلهاء التي نرى صورا لها في المعرض، تفرض قضية هامشية وتساؤلاتٍ مختلقة، وتلح لأجل جعلها متنا وأولوية للجدل الفكري والإنتاج الثقافي، على حساب حضور المواطن في السياسة وحضورها لأجله.
ليس سؤال الهوية المطروح في معرض الكتاب أولوية في مصر، والبلاد لا تعاني مأزقا يعصف بهويتها على نحو ما يصوّرون، بل مأزقها في هدر المواطنة، وفي معاداة حامل الهوية أيا كانت اختياراته. والعاقل يعي أن لا مجال لتصور هوية سياسية أو حضارية يحملها شخصٌ مقموعٌ إلى هذا الحد، محرومٌ حتى من أن يعبر عن خياراته. كيف لمثقفٍ يحترم نفسه أن يتحدّث باسم هوية جمعية لم يخترها أصحابها؟ بلسان من يتحدّث هذا المثقف؟ وتنسحب هذه الملاحظة على الحالة العربية برمتها، بعدما قمعت أصوات الناس وصودرت مكاسب ما أسميناه يوما الربيع العربي.