خرافة "حلف الأقليات" ... تحالف المحيط والأمن القومي الإسرائيلي
تتردّد باستمرار لدى كُتّابٍ عربٍ كثيرين عبارة "حلف الأقليات"، ولا يتورّع كُتّاب آخرون عن إضفاء الصدقية على آرائهم استنادًا إلى هذه المقولة. وباتت برامج التلفزة والمواقع الصحافية العربية التي تتزاحم فيها آراء الخبراء والمحلّلين والمؤرّخين تثير الكلام على "حلف الأقليات" الإسرائيلي، من دون تقديم أي وثيقةٍ متينةٍ أو مستندٍ ذي قيمة، بل مجرّد عبارات عامة نصفها صحيح ونصفها تلميح، ولا تمتلك أي قوةٍ تفسيريةٍ لسياسات إسرائيل في محيطها العربي. وعلى هذا المنوال، جعل بعضُهم من هذا "الحلف المتخيّل" مرجعًا لفهم السياسات الإسرائيلية، واعتقدوا أنهم امتلكوا المفتاح الصحيح لاكتشاف خطط إسرائيل ومؤامراتها ومآلاتها. والحقيقة التاريخية أن نظرية الأمن القومي الإسرائيلي الشامل، كما صاغها في البداية، ديفيد بن غوريون، لم تفكّر لحظة واحدة بما يُسمى "حلف الأقليات"، بل بـِ "حلف دول المحيط" أو "عقيدة المحيط" أو "مبدأ المحيط".
كانت فكرة "حلف الأقليات" مجرّد خاطرة عابرة في الفكر الصهيوني، ظهرت مرّة ثم خَبَتْ؛ فقد رفضها موشي شاريت في الوقت الذي كان بن غوريون يصوغ، مع فريقه الذي ضمّ آنذاك موشي دايان ويغئيل يادين وشمعون بيريز ويتسحاق رابين وآخرين، مفهوم تحالف دول الأطراف، أي تركيا وإيران وإثيوبيا. وللمعلومات، كان بنيامين إلياف قد أسّس في سنة 1943 حزب "تنوعات ها عام" الذي دعا إلى فكرة "حلف الأقليات" في الشرق الأوسط، وعمل في نطاق ذلك الحزب آري جابوتنسكي والشاعر يوناثان راتوش. ولم تكن لذلك الحزب أو لأفكاره أي قيمةٍ تاريخيةٍ أو سياسية في إسرائيل، ولم يجد له أي صدىً إلا في لبنان لاحقًا عندما ظهر في سنة 1975، في سياق الحرب الأهلية، حزب "حرّاس الأرز" ليبيع تلك البضاعة الفاسدة التي لم يشترِها أحد. وتقوم فكرة "حلف الأقليات" اللبناني التي صاغها إتيان صقر (أبو أرز) وميّ المر (ربيبة مناحيم بيغن)، على بناء تحالف سياسي وجغرافي بين أقليات الساحل الشرقي للبحر المتوسط، أي بين العلويين والموارنة واليهود (من دون الشيعة) لمواجهة سكان الداخل، أي العرب، أو السُنّة. ولمزيد من التفكه في هذا الشأن، نقرأ من "بنات" أفكار إتيان صقر ما يلي: "من الضروري قيام حلف استراتيجي بيننا وبين اسرائيل ومصر والدولة العلوية [التي ستُقام] بعد تقسيم سورية. إن اللبنانيين [الموارنة] لا يمكنهم العيش إلا إذا أقمنا حلفًا في وجه المحيط المعادي" (صحيفة العمل، الكتائبية، 14/4/1984). وقد انتهى إتيان صقر مرذولاً في تل أبيب، ومحكومًا بالإعدام في بلده لبنان بتهمة التجسس.
عقيدة المحيط
سعى دافيد بن غوريون بقوة، فور إعلانه قيام دولة إسرائيل مساء 14/5/1948 إلى تأمين ديمومتها وضمان سلامتها. ورأى أن ما يضمن أمن اسرائيل هو السلام مع الدول العربية الرئيسة، أي مصر والسعودية والعراق وسورية. ولذلك لم يألُ جهدًا ألبتّة في الاتصال بقادة هذه الدول من خلال وسطاء للتوصل إلى اتفاقات سلام، بدلاً من اتفاقات الهدنة. وكان رئيس وزراء لبنان آنذاك، رياض الصلح، هو الشخص الذي أراد بن غوريون منه أن يكون رسولَه إلى سورية والسعودية والأردن لتأمين عقد اتفاقات سلام. وقيل لرياض الصلح في الاجتماعات المتكرّرة التي عقدتها معه الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، وكان آخرها ستة اجتماعات في باريس ابتداء من 15/10/1948 مع يولاندا هارمر وطوبيا أرازي، إنك ارتقيت إلى أرفع منصب يمكن أن يصل إليه مسلم سُني في لبنان، فلماذا لا ترتقي أكثر فتصبح أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية ورائدًا للسلام بين الدول العربية وإسرائيل؟ وكان منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك يُضفي مهابة ورفعة على صاحبه على غرار مكانة عبد الرحمن عزّام باشا. وكان رياض الصلح يتحمحم لهذه المهمة بحذر شديد وقبول أولي، خصوصًا أن علاقات وثيقة ربطته بحاييم كالفاريسكي منذ سنة 1920، وبحاييم وايزمن منذ 1921، وبديفيد بن غوريون منذ 1934، وبموشى شاريت الذي زار الصلح في بيروت في 1944. وفي اجتماعات باريس، طلب طوبيا أرازي من رياض الصلح أن يذهب إلى جامعة الدول العربية، ويحثّ العرب على إنهاء حال الحرب مع إسرائيل، وعلى حل المشكلات المستجدّة معها بالطرائق السلمية، وأن يسعى إلى اتفاق سلام يهودي – عربي في فلسطين، فيصبح بذلك "ملاك السلام" في نظر الجميع، عربًا ويهودًا وأوروبيين وأميركيين وغيرهم.
فكرة "حلف الأقليات" مجرّد خاطرة عابرة في الفكر الصهيوني، ظهرت مرّة ثم خَبَتْ
يمكن القول إذاً إن مفهوم الأمن القومي الشامل والاستراتيجي لإسرائيل كان يعني لدى بن غوريون عقد السلام مع الدول العربية الرئيسة لضمان عدم تعريض إسرائيل لخطر الهجوم العربي عليها. لكن تلك الدول لم تلبث، بعد النكبة الفلسطينية، أن سقطت في اضطراباتٍ سياسيةٍ متلاحقة؛ فوقع انقلاب حسني الزعيم في دمشق في سنة 1949، ثم تلاحقت الانقلابات العسكرية، الأمر الذي كان يعكس مدى الاضطراب السياسي الذي شهدته سورية آنذاك، وصراع المحيط عليها. واغتيل رياض الصلح نفسه في سنة 1951 لأنه تواطأ على تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته على الفور. ولحق الملك عبد الله برياض الصلح في السنة نفسها. ثم وقع انقلاب الضباط المصريين الأحرار في 23 يوليو/ تموز 1952. وعلى هذا المنوال، تخلّعت أبواب الدول العربية المحيطة بفلسطين وشبابيكها، وما كان أحدٌ من القادة العرب يجرُؤ على الجهر بالسلام مع إسرائيل أو حتى التفاوض معها. وهكذا أدرك بن غوريون أن فكرة السلام سقطت وما عادت مُجدية، فانتقل إلى صوغ مفاهيم بديلة تستند إلى الوقائع المادّية المتغيّرة.
بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 الذي شاركت فيه إسرائيل، وتمكّنت من احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، أنجز بن غوريون مفهومه الجديد للأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما عُرف بِـ "حلف دول المحيط" أو "مبدأ المحيط" أو "سياسة المحيط" أو "حلف الأطراف". واعتقد بن غوريون أن إسرائيل، ما دامت لم تتمكّن من عقد معاهدات سلام مع الدول العربية، فيجب منع تلك الدول من شنّ الحرب عليها. ولردع تلك الدول عن شنّ الحرب، عمل بن غوريون على إنجاز المشروع النووي بسرّية فائقة (وعهد إلى شمعون بيريز وموشى دايان تنفيذه برعاية فرنسية خالصة).
إسرائيل ودول الجوار العربي
تمكّن بن غوريون، بالتوازي مع المشروع النووي، من التوصل إلى حلفٍ مع دول الجوار العربي (تركيا وإيران وإثيوبيا) من شأنه أن يعيق أي محاولةٍ من سورية أو العراق أو مصر لشنّ حرب على إسرائيل فرادى أو مجتمعين. ولا شك في أن أحد ثوابت الأمن القومي الإسرائيلي المشتق من "سياسة المحيط" هو إبعاد العراق عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وإعاقة الجيش العراقي عن تقديم أي دعمٍ متوقّع إلى سورية والأردن في أي حربٍ مقبلة. وكانت إيران، وهي من دول المحيط، تعمل بدورها على إلهاء الجيش العراقي وإبعاده عن شط العرب وعن منطقة الأحواز الغنّية بالنفط والمياه، والتي ضمّها الإنكليز بنذالة إلى إيران في سنة 1925، مثلما ضمّ الفرنسيون الإسكندرون إلى تركيا بنذالةٍ مماثلةٍ في 1938.
رأى بن غوريون أن ما يضمن أمن اسرائيل هو السلام مع الدول العربية الرئيسة، أي مصر والسعودية والعراق وسورية
انخرطت تركيا في هذا الحلف مبكّرًا، وازدادت فاعليّتها بعد الوحدة السورية المصرية في 1958 وما تبعها من وقائع خطيرة، كسقوط الملكية في العراق في السنة ذاتها، وتزعزُع أركان "حلف بغداد". وكانت تركيا تخشى دائمًا أن تمتلك سورية قدرًا من القوة، فتعود إلى المطالبة بلواء الإسكندرون وبأراضٍ أخرى ومدن سلختها تركيا عن سورية، مثل ديار بكر وماردين ونصيبين وأورفه (الرها) وحران وعينتاب وكلس وأنطاكيا وبيلان وأضنة وسميساط ومرعش وطرسوس والريحانية والسويدية وقرقخان وغيرها. وفي هذا الميدان صار دعم الملا مصطفى البارزاني ومنظمته العسكرية (الحزب الديمقراطي الكردستاني – البارتي) هدفًا استراتيجيًا لإسرائيل وإيران معًا لإشغال أكبر عدد من الفرق العسكرية العراقية وإنهاكها. ولهذه الغاية المشتركة أُسست منظمة "ترايدنت" في سنة 1958 التي ضمت كبار ضبّاط الاستخبارات في إسرائيل وتركيا وإيران، وكُلّفت مجابهة الحركة القومية العربية الصاعدة بقيادة جمال عبد الناصر، والحركة الشيوعية في دول المشرق العربي كذلك. وعلى هذا المنوال، دعمت إسرائيل (وإثيوبيا أيضًا) الانفصاليين في جنوب السودان لإدراكها أهمية البحر الأحمر للملاحة الإسرائيلية خصوصًا في المسافة الممتدة بين باب المندب وإيلات (أم الرشرش)، ولا سيما أن السفن الإسرائيلية كانت ممنوعة من عبور قناة السويس. لنتذكّر أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في 1949، وأن 34 ألف يهودي تركي سهّلت لهم تركيا هجرتهم إلى إسرائيل غداة اتفاق بن غوريون وعدنان مندريس في سنة 1958. ورفضت تركيا في سنة 1969 قرار منظمة المؤتمر الإسلامي قطع العلاقات بإسرائيل ردًا على حرق المسجد الأقصى، وها هو ميناء حيفا اليوم قد صار أكبر ميناء لاستقبال البضائع التركية التي تتابع طريقها بالشاحنات إلى الأردن والعراق وبعض دول الخليج العربي.
سَيفان لا يجتمعان في غمد واحد
طوّرت إسرائيل في مراحل متعدّدة علاقات متشعبة مع شخصياتٍ تنتمي إلى الأقليات، وإلى الأكثريات في وقت واحد، تبعًا لما تقتضيه الأحوال وتفرضه المصالح السياسية أو الأمنية. وعلى العموم، كانت الاستخبارات (أمان والموساد) هي التي تتولى هذه الأمور التي تتبدّل بين الفترة والأخرى، بحسب تحوّلات الميدان السياسي. فالكلام على الأقليات منطقي، أما على حلف الأقليات فغير صحيح. وهذه العلاقات المتقلقلة مع بعض الأقليات كانت مجرّد سياسات جارية وغير ثابتة، بينما مفاهيم الأمن القومي الشامل على المستوى الاستراتيجي شأن مختلف تماماً. وفكرة "حلف الأقليات" الساذجة، مقارنة بمفاهيم الأمن القومي، مثل سيفيْن لا يمكن جمعهما في غمدٍ واحد إلا لدى مَن يُصّر على الكيل بكيلةٍ مغشوشة؛ فلا عن الغلط يمتنع ولا إلى الصحيح يستمع ولا بقوة الحقائق يرتدع، فعقيدة المحيط تشمل التحالف في شؤون الاقتصاد والمال والتجارة والسياسة وهجرة اليهود والجيوش والأمن والمعلومات والاستخبارات والتكنولوجيا، بينما العقيدة العسكرية مفهوم مشتقٌّ من الأمن القومي الكلي والشامل، فالعقيدة العسكرية كانت تقوم على التفوّق والحرب الخاطفة ونقل المعارك إلى أراضي الخصم (أي إلى أراضينا بسبب ضآلة أرض إسرائيل خصوصًا بين جنين والخضيرة أو بين رام الله وتل أبيب). وأحد مصطلحات العقيدة العسكرية الإسرائيلية الذي يُنسب إلى زئيف جابوتنسكي، والذي صاغه بعيد ثورة 1936 الفلسطينية، هو "الجدار الحديدي". وقد تبنّى ديفيد بن غوريون هذا المصطلح وأضفى عليه بُعدًا مستقبليًا. وفي هذا الميدان، كان بن غوريون يؤكّد دائمًا أن العرب لن يتوقفوا عن مهاجمة إسرائيل، لذلك يجب أن تتمتع إسرائيل بجدار حديدي صلب جدًا (جدار افتراضي يرمز إلى التفوق العسكري الكاسح) يحمي وجودها، ويدمي رؤوس العرب كلما حاولوا خرقه، وعندما يدرك العرب، بحسب العقيدة العسكرية الإسرائيلية، أن لا فائدة من الاستمرار في محاولات اختراق ذلك الجدار، حينذاك يمكن إقامة تسوية سلمية معهم.
طوّرت إسرائيل في مراحل متعدّدة علاقات متشعبة مع شخصياتٍ تنتمي إلى الأقليات، وإلى الأكثريات في وقت واحد
في الإمكان الآن العثور على فهم أكثر وضوحًا للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولسياساتها كذلك في دول الطوق العربية، ولا سيما في سورية والعراق، فنظرية الجدار الحديدي تهدف إلى تحطيم الوطنية الفلسطينية لإرغام الفلسطينيين على القبول بالرؤية الإسرائيلية للحلول السلمية. أي أن يأتي الفلسطينيون صاغرين لتوقيع اتفاقاتٍ أمنيةٍ مع إسرائيل تتيح لها البقاء في الضفة الغربية والقدس الشرقية بصورة شرعية، لقاء الحكم الذاتي الإداري للسكّان الفلسطينيين من دون أي سلطة على الأرض، فإسرائيل لا تريد أي حلٍّ ثابت، بل تعمل بجهد وتخطيط على إدارة الصراع، لا التوصل إلى حلول مستدامة.
تبدّلت العقيدة العسكرية الإسرائيلية مرارًا بعد حرب 1967 ثم بعد حرب 1973. أما عقيدة المحيط فقد استمرّت طويلاً، وما برح بعض جوانبها فاعلًا. وها هي إسرائيل تنعم بحصاد نتائج هذه العقيدة بعد 67 سنة على صوغها؛ فقلب المشرق العربي، أي سورية والعراق ومصر، محطّم، ولم يبقّ غير الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية واقفًا أمام المحتلين وجهًا إلى دبابة، وصدرًا إلى بندقية.