خرافة "الخبز مقابل الحرية"
لا يمكن الهروب من حالة اليأس والإحباط التي تتسرّب إلى النفوس، بسبب فشل الانتفاضات العربية في إطلاق عملية انتقال ديمقراطي ناجع. ولا يمكن لوم المواطن العربي، خصوصاً الذي يئنّ تحت وطأة ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، على فقدانه الثقة بالدعوة إلى الثورات والانتفاضات، خصوصاً بعد فشل النخب السياسية التي تولّت الأمور بعد الربيع العربي في تحسين تلك الظروف، كما هي الحال في مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها.
لكنّ هذا كله لا يعني أنّ الاستبداد هو طوق النجاة، أو أن يجرى الانخداع بمعسول الكلام وبالوعود الفارغة التي يلقيها المستبدّون ويردّدها إعلامهم على مدار الساعة، من أجل إقناع ذلك المواطن بأن "الاستبداد هو الحل"، أو أن يصدّق الكلام "الكبير" عن المشاريع العملاقة وخطط التنمية التي تمتد عبر الزمن لأجيال قادمة على طريقة خطط 2030 و2050 و2070، التي نسمع عنها في أكثر من بلد عربي، وتبيع أحلاماً خاوية وأوهاماً لامعة.
أما اللافت فهو ترديد نفر من الكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب هذه المسألة، واعتبار أنّ "التنمية"، وليس الديمقراطية والحرية، هي الحلّ، باعتبار أنّ الاستبداد قد تمكّن بالفعل في بلادنا، خصوصاً في مصر وسورية. وبالتالي، لا طائل من وراء الاستمرار في معارضته من أجل الحرية والديمقراطية. وقد فاجأني صديق عزيز وإعلامي عربي معروف، قبل أسابيع حين التقينا على مأدبة عشاء في واشنطن، في أثناء زيارته إليها، بحديثه أنّنا ربما بحاجة لإعادة النظر في موضوع "الديمقراطية أولاً"، وأنّنا في حاجة، ربما، لتصديق وعود مستبدّينا في ما يتعلق بخطط النهوض والتنمية الاقتصادية والمعيشية التي تهطل علينا يومياً. وقد طرح الموضوع بشكل ذكي، ليس بالضرورة قناعة منه، فهو من أكثر الذين دافعوا عن الربيع العربي وثوراته في برامجه الإعلامية التي كنت أحلّ عليه ضيفاً بها أحياناً، لكن بالأساس من أجل إثارة التفكير في الموضوع.
قدّم المحسوبون على التيارات الناصرية والاشتراكية واليسارية العربية مسألة التنمية على الحرية، ودافعوا بحرارة عن سياسات الأنظمة السلطوية
وكان ردّي علي المسألة من شقين: الأول، أنّنا بالفعل قد جرّبنا هذا الأمر طوال نصف القرن الماضي، إذ رفع المستبدّون العرب، مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات وصدّام حسين والقذافي وحافظ الأسد وغيرهم، شعار "الخبز مقابل الحرية"، والذي تبنّاه وروّجه ودافع عنه مثقفون وصحافيون وإعلاميون عرب، خصوصاً من المحسوبين على التيارات الناصرية والاشتراكية واليسارية العربية الذين قدّموا مسألة التنمية على الحرية، ودافعوا بحرارة عن سياسات الأنظمة السلطوية، سيما ما يتعلق بغلق المجال العام وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان تحت شعارات مقاومة الإمبريالية العالمية. وكانت النتيجة، في نهاية المطاف، أنّنا خسرنا الأمرين معاً: الخبز والحرية. فدولة مثل مصر خرجت من العهد الناصري فقيرةً ومعدَمة، بسبب حروب عبد الناصر ومغامراته الخارجية التي أفقرت البلاد وأنهكت العباد. وفي حين كان ضباطه ورجاله يرفلون في النعيم والفساد، كان الشعب لا يجد ما يسدّ رمقه. وعندما تولّى السادات السلطة أوائل السبعينيات، وبدأ في تطبيق إجراءات التقشّف الاقتصادي، لم يتحمّل الشعب وخرج في تظاهرات الخبز في يناير/ كانون الثاني من عام 1977. وقد استمرّت الحال في عهد حسني مبارك الذي ترعرع فيه الفساد وتضخّمت فيه بطون الفاسدين من رجالات الحزب الوطني وأعوانهم، حتى قامت ثورة يناير 2011. في حين تقبع مصر حالياً عند أدنى مؤشّرات التنمية الاقتصادية، ويئن كاهلها بمليارات الديون الخارجية التي وصلت خلال عهد عبد الفتاح السيسي إلى 140 مليار دولار، في حين يعيش أكثر من نصف الشعب المصري تحت خط الفقر، وبمعدّل أقل من دولارين في اليوم، وذلك على الرغم من سيطرة السيسي على كلّ شيء، وفي ظل انعدامٍ كاملٍ للحريات. فلماذا إذاً نريد استعادة التجربة المريرة نفسها؟
مستبدّونا يختلفون عن بقية المستبدين، سواء في الصين أو روسيا، الذين يتبنّون مشاريع تنموية قد تعوّض أحياناً غياب الحريات عندهم
كان الشقّ الثاني لردّي: إذا فشلت خطط هؤلاء المستبدّين في تحسين الأحوال المعيشية للمواطن العادي، وهذا هو الأغلب، فمن الذي سوف يحاسبهم على ضياع كلّ هذه الأموال والسنوات؟ ومن الذي سوف يدفع ثمن ذلك الفشل؟ في الواقع، لا يوجد من يحاسب المستبدّين، وإلا لما استبدّوا أصلاً. خذ مثلاً الحالة المصرية التي يتصرّف فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويفعل في البلاد ما يشاء من دون حسيب أو رقيب، هل سيجرؤ أحدٌ على محاسبته على فشل خططه ووعوده التي يُمطر الناس بها يومياً؟ وهل تستحق هذه الخطط الثمن الذي دفعته البلاد، ولا تزال، طوال السنوات الماضية من أجل تحقيق أحلام "طبيب الفلاسفة"؟ ينطبق الوضع نفسه على خطط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي لا يتحمّل أن يعارضه فيها أحد، وإنْ بتغريدة، كما حدث مع الاقتصادي عصام الزامل، الذي شكّك في جدوى رؤية 2030 التي أطلقها بن سلمان قبل عدة سنوات، فكان مصيره الاعتقال والسجن والتنكيل، على الرغم من أنّ تقارير دولية عديدة أشارت إلى عدم واقعية تلك الرؤية، بما يتفق مع كلام الزامل. وحقيقة الأمر أنّ مستبدّينا يختلفون عن بقية المستبدين، سواء في الصين أو روسيا، الذين يتبنّون مشاريع تنموية قد تعوّض أحياناً غياب الحريات عندهم، فمستبدّونا من نوع وجنس آخريْن، إذ لا توجد لديهم أيّة رؤية أو مشروع حقيقي للتنمية، وإنّما مجرد وعود برّاقة من أجل بيع الوهم للشعوب.
خلاصة القول إنّ الحرية والخبز والتنمية حقوق طبيعية للشعوب ليست مضطرّة للاختيار بينها. ولعلّ النتيجة التي توصلنا إليها من خبرة العقود الماضية أنّ من يضحّي بحريته اليوم لن يجد خبزه غداً.