خبز الفلاسفة ومرَقهم

28 أكتوبر 2022

(خوان غريس)

+ الخط -

مثّل الطعام أساسَ نجاح الأمّة وحداثتها، بنظر الفيلسوف الإيطالي فيليبو مارينيتي، محمِّلاً المعكرونة الدّسمة بكلّ صلصاتها، المسؤولية عن تأخّر بلاده، لأنّها تُسبّب الثِّقل والإعياء للأفراد، وتُثقل مديونية الدّولة، وتُضعف اقتصادَها، بسبب اضطرارها إلى استيراد القمح. للإشارة، كان مارينيتي يطمح إلى جعل إيطاليا إمبراطوريةً مُهيمِنة على منطقة البحر الأبيض المتوسط، مُتكئاً على الأرز للثورة على الواقع "المعكروني".

بينما يحضر الطعام في كتاب "حوار المأدبة" لأفلاطون، بخفّةٍ ترفعه إلى مصافّ عليا إلى جوار الفلسفة، في مأدبة الفلاسفة. وعادةً ما يكون الطعام أقلّ أهميةً في مثل هذه الجلسات، من الخمور. لكن حضوره يمثّل الزّاد المادي للحفاظ على إيقاع الحوارات الفكرية بين الفلاسفة وحيويتها. كان أفلاطون يؤمن بأنّ على الفيلسوف المثالي ألّا يحرم نفسه من الأطعمة المنتشرة، والمتعارف عليها ثقافيّاً في محيطه. بالرّغم من أنّه يعتبر أن الطّبخ المتكرّر معرفة جوفاء. ويرى في الطّبخ وسيلةً لتفسير نظريّة المعرفة عند الإنسان أو فهمها. لذلك شغل الطّعام حيزاً من نقاشات الفلاسفة التي تتعلق بالتفريق بين العلم والفن، والمعرفتين، المكتَسبة والفِطرية. لكن الفيلسوف اليوناني ديوجين اعتبر فكرة الحضارة مرادفاً للغش والفساد، لقضائها على براءة الإنسان الأولى. ولذلك كان لا يكفّ عن الدّعوة إلى البدائية التي تجلّت بوضوح في نظامه الغذائي. إذ لجأ ديوجين إلى شرب المياه من الينابيع، والتقاط ثمار الأشجار كالبلّوط والزّيتون والفواكه، محاكياً الإنسان القديم. فيما كان يأكل الطعام النيء ويرفض طهي الطّعام، بسبب احتقاره النّار التي سرقها بروميثيوس من آلهة جبل الأولمب، ومَنَحها للبشر لإقامة حضارتهم الفاسدة.

لكن الطّبخ نال أقصى تقريع له، من ابن خلدون، الذي فضّل أهل الصّحراء والقفار في الجسد والعقل والأخلاق، على أهل التّلال والسهول، عازياً ذلك إلى طبيعة أغذية أهل البلاد الخصباء، فيقول: "كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة والعفنة التي تولّد في الجسم فضلات رديئة، ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم، وتغطّي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الرديئة، فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة". لنتخيّل رد فعله، لو عاش في عصر الأكل السريع والمشروبات الغازية والمعلبات.

في كتابه المرح "بطن الفلاسفة"، يتناول الكاتب والفيلسوف الفرنسي الحاضر دائماً في الإعلام، ميشال أونفري، الأطعمة المفضّلة لدى أشهر الفلاسفة. ويُفسِّر علاقة نظامهم الغذائي بفلسفتهم في الحياة وبأسلوب تفكيرهم. حيث نلاحظ ارتقاء الطّعام لدى فلاسفة عصر التّنوير عن القدماء، لكن بدرجات. فجان جاك روسو، المعروف بالزّهد، يدعو إلى تناول الطعام الذي لا يتطلّب تحضيراً كبيراً، محذّراً من خطيئة الشّراهة، فالطعام وسيلة للبقاء على قيد الحياة، وليس أداةً للمتعة واللّذة، بينما ترتبط فنون طهي الأطعمة، بانحطاط الأمّة وفسادها.

أما فيلسوف عصر التّنوير، إيمانويل كانط، مؤسّس الفلسفة المثالية الألمانية، فقد كان يمقُت اليخنات، التي هي أساس المطبخ الألماني، الذي يتّفق جلّ الفلاسفة الألمان على نبذه. بينما ألحّ الفيلسوف الفرنسي الطّوباوي، شارل فورييه، الذي سعى إلى إيجاد مجتمع منتج متعاون ونظام اقتصادي عادل، على التغذية الجيدة للمواطنين شرطا للانسجام. وفضّل فورييه الأطعمة الغنيّة بالسّكريات كالمربيات الخفيفة، والكريمات الطازجة، معتقداً أن السُّكر حجر الأساس في غذاء هذا المجتمع الفاضل البهيج، الذي يسعى إليه.

في حين دعا نيتشه إلى حذف الخبز من قائمة الطّعام، لأنّه يُحيِّد نكهة بقية الأغذية. ورفض الأكل النّباتي، فالإنسان الخارق المتفوّق الذي سعى إلى تشكيله يحتاج إلى اللّحم لكي يبني جسده وقوّته. بل وصل به الأمر، في السّنوات الأخيرة من حياته، إلى أن يشتري كمياتٍ كبيرةً من اللحوم ويعلّقها على الحائط. لعلّنا لم نتخيّل يوماً نيتشه، مع جنونه، يكتب بين خيوطٍ من اللّحم المقدّد وحبّات النقانق المُعلقة، كعقود على الجدران. لكنّه، في ذلك، أفضل من سارتر الذي كان يأكل أي شيء يحصل عليه، مهملاً نوعية طعامه ونظافته الشخصية، فيما يقدّم فلسفته الوجودية إلى العالم. لعله لو كان كثير العناية بنوعية حياته، لنظر إلى العالم من زاوية مختلفة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج