حُرّاس الفنّ والتمثيل ظل السلطة الإقصائية
قد تكون مؤمنًا بالاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، وقد لا تكون، وهذه مسألة قد يطول البحث فيها؛ نظرًا إلى اختلاف المرجعيَّات، ونظرًا إلى طبيعة فهْمِك الشريعة، ونطاق تفعيلها؛ هل تقصرها على العبادات، وبعض الأخلاق، والأحوال الشخصية، كالزواج والطلاق؟ أم تعمِّمها على كلِّ ما تعرّضتْ له أحكامُ الحلال والحرام، من معاملات وأخلاق وقوانين؟ بعد هذا البحث يأتي السؤال، لو كنتَ ممَّن يرتضي الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، وترى ضرورة تحرِّي حُكْمِها، لدى من تثق بهم؛ من علمائها، قديمًا، أو حديثًا.. هل ثمّة مجالات مغلقة أمام حكمها، كالتمثيل، مثلا؟ هل التمثيل أو الفن، بمتطلَّباته، يتموضع فوق الشريعة، أو خارج نطاقها، أم هي التي فوقه، والحاكمة عليه؟
الناظر في النصوص الشرعية الواضحة الدلالة، أو ما تسمّى مُحْكَم النصوص، مقابل متشابهها، أو قطعيّها مقابل ظنّيِّها، يجد أنها تَرُدُّ كلَّ المجالات إليها، كما في الآية الكريمة: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلِّ شيء"، فهي تدلُّ على شمول الشريعة كلّ المجالات، لا من حيث الدخول في اختصاصها، فلكلِّ مجالٍ أهلُ اختصاصه، وإنما من جهة الحُكْم على ما تطرّقت له الشريعة بالحرمة أو بالحِلّ، ففي السياقة مثلا، ثمَّة أحكام شرعية، ومن ثَمَّ جزائيَّة، تعرَّضت لحُرْمة الإهمال المُسَبِّب للحوادث، أو السرعة المُفضِية إلى فقدان السيطرة، والتسبُّب في قتل الناس، أو إلحاق الأذى بأجسامهم، أو ممتلكاتهم، أو حتى ترويعهم. أما مجال تنظيم حركة السير فمتروكٌ لأهل الاختصاص. وهكذا في المجال الطبِّي وغيره.
المشهد الدرامي قد يُظهِر الممثل والممثلة مكان الزوج والزوجة، مثلًا. كل هذا على الأقل لتفهم مرجعيات هذا الممثل الذي ينجح، ويتميز، في أعماله، فنيًّا، من دون مشاهد ساخنة
وعليه، لا نستطيع أن نستبعد، سيما في بلد معظم أهله من المسلمين، كمصر، وجود ممثِّلين لديهم هذا النظر إلى دينهم وأحكامه، وشمولها سائرَ أفعالهم، وجزئيات مهنتهم، تمامًا كما ينظر الصانع في جزئيات مهنته، ويراعي الحلال والحرام فيها، وكما ينظر المدرِّس وجوب مراعاة دينه، في أثناء تعليمه الطلبة، أو كما يلتزم التاجر في بيعه وشرائه، وهكذا.
مناسبة هذا الحديث الهجوم الذي تعرَّض له الممثِّل يوسف الشريف، وأجددُه من السيناريست مدحت العدل، معتبرًا أن تصريحات الشريف رفضه لمس الفنَّانات يندرج في مغازلة التيَّار المتطرِّف، إذ قال في برنامج "شيخ الحارة والجريئة"، مع المخرجة إيناس الدغيدي، عبر شاشة "القاهرة والناس"، إن يوسف الشريف حرّ في رفضه لمس الفنانات في أعماله، ولكنه ليس حرًّا في تصريحه بذلك، على الملأ؛ ما يدين زملاءه في المجال، فهو يدين الفن المصري بأكمله.
لم يشأ مدحت العدل مناقشة أصل الموضوع، ودوافع الشريف، على الأقل، كما نظر إليه هذا الممثل الذي شهد له العدل بالتميز والقدرة الفنية، لم يشأ أن يقول: هل ملامسة الممثل الممثلة حلال أم حرام؟ أو هل تقبيله إيَّاها جائز أم محرَّم؟ واستطرادًا: هل استثنت الشريعة الإسلامية التمثيلَ من أحكامها؟ كليًّا، أو جزئيًّا؟ هل رخّصت للممثل، كما رخّصت للطبيب مثلا، عندما تقتضي الحالة العلاجية مثل تلك الاستثناءات، مع الفارق أن المشهد الدرامي قد يُظهِر الممثل والممثلة مكان الزوج والزوجة، مثلًا. كل هذا على الأقل لتفهم مرجعيات هذا الممثل الذي ينجح، ويتميز، في أعماله، فنيًّا، من دون مشاهد ساخنة.
رأي مدحت العدل ليس التوجُّه المُجمَع عليه، حتى في أوساط الممثلين، فقد رأى اتجاه آخر أن من حق يوسف الشريف أن يضع الضوابط التي رآها في عمله
ولكن مدحت العدل انتقل إلى تداعيات رأي الشريف، أو قناعته، وفق تقدير الأول طبعا، على الخصومة (وهي كلمة مخفَّفة) بين المتطرِّفين وغير المتطرِّفين، وحتى إنه هاجم رأيه؛ لأنه أعلنه، وكان المفروض، بحسب العدل، أن يحتفظ به لنفسه، حتى لا يؤذي، أو يدين زملاءه في مهنة التمثيل، ممَّن تقع بينهم الملامسة والتقبيل، وما شاكل. .. وتلزم الإشارة هنا إلى أن رأي العدل ليس التوجُّه المُجمَع عليه، حتى في أوساط الممثلين، فقد رأى اتجاه آخر أن من حق الشريف، بصفته فنَّانا، أن يضع الضوابط التي رآها في عمله.
وكان يوسف الشريف أفصح عن رأيه الذي أثار غضب كثيرين في "الوسط الفني"، في معرض إجابته عن سؤال مُحاوِره، رامي رضوان، على قناة dmc (لم يبادر إلى طرح هذا الرأي) مفصِّلًا أنه يضع قيودًا لنفسه، فلا يقبل، مثلا، المشاهَد الساخنة كالقبلات، وغيرها، وصرَّح إنه لا يطبِّقها على غيره، فهي وجهة شخصية لا يجبر أحدًا عليها، وهو حتى لا يطرحها للنقاش. وكانت ردَّة فعل رامي رضوان، على توضيحات الشريف، (وهو ممثل ومقدِّم برامج) متفهِّمة. أما الغاضبون عليه، فالظاهر أنهم لا يقبلون منه مجرِّد القول إنه يرى ذلك لنفسه، فكأنهم هم الذين يريدون إجباره على تبنِّي موقفهم؛ وصولًا إلى امتناعه عن التعبير عن رأيه في شأنه هو، وفي دائرته الذاتية الفنية الخاصة.
عقلية سلطوية إقصائية تتعاطى مع الاختلاف، أو الخروج عما تكرّس خطّا سائدا، في السينما والدراما
على الرغم من أن الشريف بدا، في المقابلة التي بُثَّت قبل قرابة السنة، حريصًا على عدم مهاجمة زملائه، ممَّن لا يُلزِمون أنفسهم بتلك القيود، أو الإساءة إليهم، أو المزايدة عليهم، بل أكَّد على احترامه لهم. كلُّ ما هنالك أنه طالب باحترام خياره هو، من باب الحرية الشخصية.
وهذا يشي بالعقلية السُّلطوية (الإقصائية) التي تتعاطى مع الاختلاف، أو الخروج عما تكرّس خطّا سائدا، في السينما والدراما، عقودا، ويدل هذا التعاطي الهجومي على ضِيق المهاجِمين بالتنوُّع والاختلاف، هذا التنوع الموجود في مصر، سواء في أوساط المشاهدين، أو في أوساط ممثلين، ولا يمكن إنكاره، أو التنكُّر له، بل آنَ الأوان للاعتراف به. والهجوم الشنيع على هذا الاتجاه موضع استغراب، إذ طالما اشتمل أيّ مجالٍ على اتجاهاتٍ مختلفة، سيما في المجالات الإنسانية، كالأدبية والفنية، والإصرار على نزع الشرعية عن المختلِف يعادل، ويذكِّر بأدوات السلطة الاستبدادية، أكثر ممَّا يراعي الرؤية الفنية الإنسانية الرَّحْبة.