حين تفسد الإحصائيات على السلطة في تونس تباهيها
كما كان متوقّعاً، صدر في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية في تونس)، في نهاية الأسبوع الماضي، أمر بانهاء مهام المدير العام للمعهد الوطني للإحصاء (مهندس عام مختصّ في الإحصاء)، والمعهد هو المؤسسة الرسمية المرجعية للإحصاء في البلاد التونسية، أنشئ سنة 1969، وظل يؤدّي مهامه المختلفة، لعل أهمها إنجاز الإحصائيات. تتنوّع مناهجه وتطبيقاته ما بين المسوحات العنقودية والتعداد العام ومختلف الإحصائيات الواردة عليه من الوزارات والمؤسّسات العمومية. اكتسب المعهد الوطني وجاهته العلمية، وحاز ثقة مختلف الفاعلين، سواء كانوا باحثين أم نخباً اقتصادية واجتماعية. لم يخل تاريخ المعهد من ضغوط، حتى يطوّع المعلومات الإحصائية، بما يدعم الأنظمة المتعاقبة على تاريخ البلاد، ولكنه استطاع، إلى حدّ ما، أن يحافظ على نسبة عالية من الموضوعية، رغم ما وجّه إليهم من انتقادات على اعتبار أنه قد يكون تلاعباً بنسب الفقر خلال فترة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولكن المعهد استعاد رصيد الثقة فيه. وهو يزخر بكفاءاتٍ علميةٍ مرموقة خرّيجة مختلف المعاهد الوطنية أو الأجنبية للإحصاء، وفيه إدارة متخصّصة تتوزّع على مختلف أنواع الاحصائيات: الديموغراغرافية، الاقتصادية ... إلخ.
تحتاج منظومة الإحصاء في تونس إلى مزيدٍ من التحديث، مواكبة لتطوّرات علوم الإحصاء، خصوصاً في ظلّ أمريْن لا يمكن إنكارهما: تطور مدهش في النظم الإحصائية التي أدمجت الذكاء الاصطناعي مع نمو برمجياتٍ فائقة الدقة: بيرقراطية الإدارة التونسية من جهة وغياب ثقاة الإحصاء لديها. يسهر المجلس الأعلى للإحصاء على النهوض بمنظومة الإحصاء في البلاد، ولكن مجالات عديدة تظلّ إما غير مشمولة في منظومة الإحصاء أو تشوبها نقائصُ كثيرة تتعلق بمعاييرها واحتسابها واستغلالها.
لم تتجاوز نسبة النمو في تونس 0,4 % خلال السنة المنقضية 2023
واستفاد المعهد كثيراً من مرحلة الانتقال الديمقراطي، وعزّز ثقة النخب والمواطنين فيه، حتى غدت أرقامه موضوع اهتمام بالغ للرأي العام، يحاجج بها بعضٌ بعضاً آخر في نزاعات التأويل وتحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك. مع ذلك، لم يشكّك أحدٌ في مصداقية الإحصائيات تلك. كما ظلّت مسائل بعينها تشدّ انتباه التونسيين، على غرار نسب البطالة والفقر والأمية والتضخّم والعجز التجاري، علاوة على نسب الطلاق والعزوبية ... إلخ.
يُصدر المعهد إحصائياته دورياً في مختلف نشرياته، هي في جلها مضمّنة في موقعه الإلكتروني. وقد ظلّ المعهد يشتغل باعتياد، غير أنه "لم يقدر" تماماً أن المناخ مختلف، وأن عليه تعديل أوتاره، فقد تعد أرقامه مؤامرة على السلطة والبلاد معاً. نشر خلال بداية الأسبوع الماضي جملة من التقارير الوصفية، مستنداً في ذلك إلى إحصائياته التي دأب عليها. كانت بعض الأرقام صادمة، وتحديداً نسبة النمو لم تتجاوز 0,4 % خلال السنة المنقضية 2023، وارتفاع نسبة البطالة العامة إلى ما يناهز 16,5% وربما سجلت أرقاماً قياسية عند شريحة الشباب، فقد تكون قاربت ما يزيد على 22,5% علاوة على مؤشّرات أخرى تتعلق بالاستثمارين، الداخلي والخارجي والعجز التجاري، رغم بعض المؤشّرات الإيجابية الأخرى التي تظل محدودة في ظل مناخ الأزمة الحالية ...إلخ.
السياق العام في تونس هو الذي يجعل الإحصائيات تتكلّم بما لا تشتهي السلطة
على إثر هذه الأرقام التي جرى تداولها بكثافة، وكانت حديث برامج إعلامية عديدة كتب بعضهم مباشرة تدوينات تفيد بأن المدير العام للمعهد سيرحل قريباً، نظراً إلى أن إحصائيات مؤسّسته ستثير لا محالة غضب السلطة. لم يتأخر الأمر طويلاً، ليأتي نشر الإقالة في الرائد الرسمي مصدقاً تلك التوقعات.
تداولت أوساط إعلامية وعلمية منذ مدة أن المدير العام يشعر برغبات الهيمنة، وتوظيف المعهد حتى يعتني بتحسين الواجهة الإحصائية للسلطة. وذهبت مصادر إلى أنه كان يرغب في الاستقالة، غير أن موانع عديدة حالت دون ذلك، لعل أهمها خشية أن معاقبته على هذه الجرأة، فالمسؤولون يُقالون ولا يستقيلون.
أفسدت الإحصائيات التي نشرت على السلطة تباهيها بأنها بصدد تحقيق المعجزة التونسية، لقد ذهبت إلى حد أن مصادر حكومية كتبت، في بيان رسمي، أن أصدقاء تونس منبهرون بقدرتها على خلاص ديونها، وعلى تحقيق نتائج اقتصادية باهرة. كما أن سردية تنتشر، ويصدّقها سذّجٌ وحاقدون عديدون على العشرية الفارطة، ومتملقون كثيرون، أن البلاد تتعافى بصورة مدهشة، وأن الأمور على أحسن ما يرام. لذا ينكرون، إلى حد الهلوسة، كل المعطيات التي تكشف لهم أن الحقيقة مختلفةٌ عما يتوهّمون. وتوقيت نشر تلك المعطيات، وإن يتم دورياً، خاطئ، فالسلطة تريد أن تذهب إلى الانتخابات بكثيرٍ من المنجزات والمكاسب، ولا ترغب تماماً في إثارة تلك الكميات المريعة من الإخفاق.
الإحصائيات خرساء، وعليكم أن تنطقوها. هكذا يقول لنا أساتذة الديموغرافيا. للأسف، السياق العام في تونس هو الذي جعلها تتكلّم بما لا تشتهي السلطة هذه المرّة.