حين تخدعنا توقّعاتنا
كم مرّة خُدعنا بأوهام صنعناها بأيدينا؟ نظن أننا محور حياة الآخرين، نبني توقّعات شاهقة ونعيش تحت ظلالها، ثم يصدمنا الواقع بقسوته. في هذا المقال، نغوص في أعماق هذا الوهم، ونتساءل: لماذا نسمح لتوقّعاتنا بأن تخدعنا؟
في العلاقات الإنسانية، ثمّة خيط رفيع يفصل بين الحقيقة والوهم. أحياناً، نحمل في قلوبنا تصوّرات ضخمة عن مكانتنا في حياة الآخرين. نتخيّل أننا محور عالمهم، وأن حضورنا لديهم لا يمكن أن يُستبدل أو يُنسى.
نبني قلاعاً من التوقّعات في أذهاننا، ونعلّق آمالنا على جدرانها، وكأننا بذلك نحمي أنفسنا من قسوة الواقع. لكن الواقع لا يتبع أوهامنا، وهو غالباً ما يكون أشد قسوة مما نتصور.
نكتشف، بعد حين، أن المبالغة في تقدير مكانتنا في حياة الآخرين ليست سوى خدعة قاسية صنعناها بأنفسنا، وحين تنكشف الحقيقة، نكون وحدنا المسؤولين عن الألم. كم مرّة شعرنا بالخذلان لأن من أحببناهم لم يبادلونا الحب بالطريقة التي كنا نرجوها؟ كم مرّة ظننّا أن صداقتنا شخصاً ما كانت عماد حياته، لنكتشف لاحقاً أننا مجرد عابرين؟ ... هذه ليست اتهامات للآخرين، بقدر ما هي دعوة إلى التأمل في دواخلنا، فالمشكلة لا تكمن في الآخرين، بل في أنفسنا، في توقّعاتنا التي لا تراعي حقائق البشر، ولا حدود المشاعر.
ليست قصص الخيبة المرتبطة بالمبالغة في تقدير مكانتنا بعيدةً عن أيٍّ منا. نتذكّر ذلك الصديق الذي كنّا نظن أن غيابه عن يومنا مستحيل، ثم رحل من دون أن يلتفت إلى الوراء. أو تلك العلاقة التي كنا نؤمن بأنها ملاذٌ دائم، فإذا بها تتحوّل إلى درس في الفقد والانفصال. ... قد نلوم الآخرين في البداية، لكن الحقيقة أننا نحن من وضعنا أنفسنا في هذا الموضع.
نحن من رسمنا صورة مبالغاً فيها لأنفسنا في أذهانهم، وعندما لم تتطابق الصورة مع الواقع، وجدنا أنفسنا في مواجهة نتائج لم نكن مستعدّين لها. لكن هل هذا يعني أن نتوقّف عن الحب، عن التقدير، عن بناء العلاقات؟ بالطبع لا. العلاقات هي جوهر الحياة، لكن جمالها يكمن في واقعيّتها، لا في التصوّرات الزائفة التي نرسمها في أذهاننا. أن تحبّ يعني أن ترى الآخر كما هو، لا كما تتمنّى أن يكون. أن تكون صديقاً يعني أن تدرك أن الصداقة مساحةٌ متبادلة، لا واجباً مطلقاً. أن تكون حاضراً في حياة الآخرين يعني أن تعي أن غيابك لن يوقف حياتهم، وأن هذا لا يقلّل من قيمتك، بل هو جزءٌ من حقيقة البشر.
لا يعني إدراكنا هذه الحقيقة أن نقلّل من قيمة أنفسنا، بل أن نحترم الحدود الطبيعية للعلاقات. عندما نبالغ في تقدير مكانتنا نضع الآخرين تحت ضغط توقّعاتنا، ونضع أنفسنا تحت ضغط خيبات الأمل.
الحياة أبسط مما نظن، والعلاقات أجمل عندما تُبنى على الصدق والبساطة، لا على التوقّعات المفرطة التي تنتهي بنا إلى الكارثة. والتوقّعات التي نبنيها في أذهاننا غالباً ما تكون سلاحاً ذا حدّين. فهي ما يدفعنا إلى تقدير أنفسنا، لكنها أيضاً ما يدفعنا نحو الألم إذا لم نُحسن فهمها. لذلك علينا أن نتعلّم أن نعيش العلاقات بصدق واعتدال، أن نحبّ من دون أن نتوقّع مقابلاً، وأن نكون حاضرين من دون أن نرسم لأنفسنا دور البطولة في حياة الآخرين. ذلك أننا جزءٌ من عالم كبير، والعلاقات جزءٌ من حياتنا، لكنها ليست كل حياتنا.
والحقيقة البسيطة أننا نحن المسؤولون عن مآسينا في العلاقات، لأننا نسمح لوهم المكانة أن يقودنا. وعندما نتحرّر من هذا الوهم، نبدأ في رؤية العالم كما هو، ونبدأ في بناء علاقات أكثر صدقاً، خالية من المبالغة، مليئة بالتقدير الواقعي والاحترام المتبادل.
الحياة أجمل عندما نعيشها ببساطة وصدق، بعيداً عن أوهام توقّعاتنا المُفرطة. حين ندرك أن العلاقات ليست بطولة مطلقة، بل مساحات متبادلة من التقدير والاحترام، سنرى العالم بوضوح أكبر. فلنحرّر أنفسنا من أوهام المكانة، ونمنح قلوبنا فرصةً لبناء روابط أكثر عمقاً وواقعية.