''حياة الماعز''... لماذا الآن؟
لا يزال الفيلم الهندي ''حياة الماعز'' يثير جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي. قصّته مقتبسة من رواية تحمل العنوان نفسه، صدرت قبل سنوات، وهي مستوحاة من محنة حقيقية عاشها رجل هندي، دفعه ضيق ذات اليد إلى الهجرة إلى السعودية في مطالع تسعينيّات القرن المنصرم من أجل العمل. لكنّه سيتعرّض للخداع من كفيل وهمي، ويجدُ نفسَه مُجبراً على العمل راعيَ غنمٍ في الصحراء، في ظروف قاسية، قبل أن ينجح في الفرار، في نهاية الفيلم.
فنيّاً، أبرز ما يثير الانتباه في الفيلم الحشو والافتعال المبالغ فيهما. وقد كان لذلك أثره في بنائه الدرامي. وإذا كان المخرج قد نجح في توظيف المُؤثّرات البصرية والموسيقية، إلّا أنّ ذلك لم يخرُج عن التوجّه العام للسينما الهندية التجارية في هذا الصدد. ويبدو أنّ الرهان على هذه المُؤثّرات كان مدروساً في أفق تمرير ما أراد صنّاع الفيلم تمريره من رسائل.
كان واضحاً، منذ البداية، أنّ هناك ''رسالةً'' حرص صنّاع الفيلم على إيصالها، تخصُّ ما يتعرّض له العمّال الأجانب في بلدان الخليج العربي من ظلم بسبب نظام الكفالة. لكنّ ذلك لم يكن ضمن رؤيةٍ متوازنةٍ تستدعي اعتباراتٍ موضوعيةً؛ فالفيلم مأخوذ عن روايةٍ صدرت في 2008، لكنّ أحداثها تعود إلى 1993، ما يعني أنّ هناك فجوة زمنية بين أحداث الرواية (1993) ومضمون الفيلم. تكتسي هذه الفجوة دلالاتها ممّا يُفترض أنّه تراكم في السعودية في صعيد التشريعات الاجتماعية ذات الصلة بحقوق العمّال الأجانب. فما الذي يُبرّر كلّ هذه الضجة إزاء فيلم يتناول واقعةً حدثت قبل أكثر من 30 عاما؟... لا يعني ذلك أنّ منظومة العمالة الوافدة في السعودية، وباقي بلدان الخليج، لا تشوبه شائبة، كما لا يعني أيضاً تبريراً لأنظمة الكفالة التي تتعارض مع مبادئ الحرّية والمساواة وحقوق الإنسان. لكنّ هناك سؤالاً: لماذا الآن هذه الضجّة؟
فضحت حرب الإبادة في غزّة مواقع التواصل الاجتماعي، التي انحازت للسردية الإسرائيلية، ووظّفت جهودها كلّها لمنع المحتويات الداعمة للشعب الفلسطيني، ونشرِ الأخبار المُضلّلة التي تخدم دولة الاحتلال. واليوم، حين يعتلي وسْمُ ''حياة الماعز'' هذه المواقع في تباكٍ على ظروف عمل الهنود في الخليج، في وقت يبادُ الفلسطينيون في غزّة على الهواء مباشرةً، فالمرجّحُ أنّه ليس من أجل هؤلاء الهنود وغيرهم، وإنّما لاعتباراتٍ سياسية بحتة، على صلة بالصعوبات التي تجابه إبرام اتّفاق تطبيع سعودي إسرائيلي؛ يتعلّق الأمر بزيادة الضغط الأميركي على الرياض لجرِّها إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وإحداثِ شرخ استراتيجي عربي آخر، يُضاف إلى الشرخ الذي أحدثته معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979)، وبالتالي، تبييضِ سجلّ دولة الاحتلال التي أبادت أكثر من 40 ألف فلسطيني في غزّة.
بالطبع، لا يعني ذلك تبرئةً لذمّة الدول العربية من مسؤوليتها التاريخية، عن محرقة غزّة. لكن، وراء الأكمّة ما وراءها، ومن الصعب، في ظلّ ما يشهده الإقليم، تصديقُ أنّ الضجّة التي أحدثها الفيلم مَحْض مصادفة. لسنا بُلهاء لنصدّق أنّ تباكي الضمير الغربي على ظروف العمالة الوافدة في السعودية نابع من حرصه على الدفاع عن حقوقها.
في السياق ذاته، يُغذّي مضمون الفيلم خطابَ اليمين الهندوسي المُتطرّف، الذي تُشكّل مُعاداةُ الإسلام أحدَ مقوّماته. بدا ذلك، على سبيل المثال، في تساؤل بطل الفيلم (ذي الإنتاج الأميركي الهندي المشترك!) في مشهدٍ عن جدوى دعاء الله، فيما يبدو إسقاطاً دينياً فجّاً. هذا، من دون السهو عن الدور الذي لعبه هذا اليمين في إشاعة الأخبار الزائفة عن "'طوفان الأقصى''، بما يصبّ في مصلحة السردية الإسرائيلية.
يُكرّس فيلم ''حياة الماعز'' بديهيةً راسخةً، ترتبط بهيمنة الدعاية الصهيونية على السينما والصورة والإعلام، وتوظيفها باعتبارها قوّةً ناعمةً تُؤثّر في الرأي العام وتوجّهه. كما يُكرّس بديهيةً أخرى، تتعلّق بنفاق الإعلام الغربي، فهو مستعدٌّ لأن يُقيم الدنيا ولا يُقعِدها بسبب فيلم عن محنة رجل هندي عاش في السعودية قبل أكثر من 30 عاماً.