حماس انتصرت في حرب الصورة
لكل حربٍ صورتها القوية الخاصة والمميّزة، منذ تحولت الصورة إلى سلاح أمضى من كل الأسلحة الفتّاكة، من صورة فتاة النابالم، خلال حرب فيتنام، التي أحدثت تحوّلاً كبيراً في اتجاه الرأي العام المناهض لتلك الحرب، مروراً بصور سجن أبو غريب في العراق التي كشفت عن سادية الجندية والجندي الأميركي، إلى صور الأطفال الخدّج في مستشفى الشفاء، وهم يصرخون من شدّة البرد والجوع، بعد أن أُخرجوا من حاضناتهم التي توقّفت عن العمل بسبب نفاد الوقود داخل المستشفى واستهداف قوات الاحتلال مولّدات الكهرباء داخله، فهذه الصورة المؤلمة بكل قساوتها وما حملته من وحشية وانعدام للإنسانية لن تنمحي أبداً وستبقى رمزاً قوياً لهذه الحرب، وشاهدة على بشاعة الاحتلال الإسرائيلي، وعنصرية الفكر الديني المتطرّف الذي يغذّي عقيدة جنوده.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزّة، الذي أنتج صوراً مروّعة، سعت إسرائيل إلى ربح معركة الرأي العام الغربي، من خلال رسم صورة لمقاومي "حماس" متوحشين وهمجيين، خصوصاً في الأيام الأولى التي أعقبت هجوم 7 أكتوبر، حيث روّجت الآلة الدعائية الإسرائيلية صوراً بشعة وعاطفية للعنف الذي شهده ذلك اليوم، ونشرت رسائل دعائية مدفوعة الثمن لتشويه المقاومة الفلسطينية، ولحشد الدعم والتحضير النفسي لردّها العسكري الوحشي الذي كانت تعدّ له.
وبما أن الحرب ما زالت لم تنته، ولا أحد يمكنه أن يعرف متى أو كيف ستنتهي، فإن ما هو مؤكّد أن إسرائيل نجحت في تدمير أكثر من 50% من مباني شمال قطاع غزّة وقتلت وأصابت أكثر من 50 ألف ضحية في 50 يوماً فقط، أغلبهم من الأطفال والنساء، وشرّدت أكثر من مليون وسبعمائة ألف فلسطيني، لكنها، في الوقت نفسه، خسرت صورتها لدى شرائح واسعة من الرأي العام العالمي الذي كان يخرُج في كل منطقة في العالم بشكل تلقائي لمناصرة الفلسطينيين. كما خسرت إسرائيل صورتها الدعائية بشكل ملحوظ من خلال مقطع الفيديو الذي نشره المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، وهو يقود صحافيين عبر قبو مهجور، ادّعى أن جيش الاحتلال عثر عليه تحت مستشفى الشفاء في غزّة، وزعم إن المقاومة كانت تستخدمه قاعدة لعملياتها، لكن سرعان ما انكشف زيف تلك الادّعاءات الكاذبة التي تحوّلت إلى مادّة للسخرية والتنكيت في وسائل التواصل الاجتماعي.
باتت معركة الصورة مُحدِّداً لتحقيق الانتصار، حيث تُظهر الدول والجيوش قوتها من خلال الصور الإنسانية التي تتركها في المخيلة الجمعية للرأي العام
وفي كل يوم كان يمرّ كانت الصورة التي روّجتها إسرائيل، والإعلام الغربي الموالي لها، وبرّرت بها عدوانها الوحشي على المدنيين الأبرياء في قطاع غزّة المحاصر، تتحوّل إلى مجرّد شكل آخر من أشكال الدعاية الفجّة. ومع مرور الوقت، سوف تتغيّر أكثر، وهو ما سيكلف إسرائيل الكثير في معركة كسب تعاطف الرأي العام العالمي مستقبلاً. فخلال 50 يوماً من القصف العشوائي والوحشي للمباني السكنية والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس وللنازحين الأبرياء، وهم يهربون من القصف، انتشرت صور بشعة ومؤلمة كثيرة أضرّت كثيراً بصورة إسرائيل، وهزّت مشاعر الملايين الذين خرجوا في جميع العالم في مسيرات ضخمة يطالبون بوقف العدوان الهمجي الإسرائيلي على غزّة. ووراء الغبار الكثيف والدمار الكبير والحرائق الضخمة التي كانت تخلفها كل غارة إسرائيلية كانت الصورة الدعائية الإسرائيلية تختفي وراء سحب الأدخنة السوداء القاتمة التي ظلّت تخيّم على سماء غزة طوال الأسابيع الماضية.
وفي المقابل، عرفت حركة المقاومة، بوسائلها وإمكاناتها البسيطة، كيف تستخدم وسائط الإعلام ومنصّات التواصل لترويج صورة إيجابية تشحن عزيمة مؤيديها وتثير الغضب المناهض لإسرائيل لدى الرأي العام الغربي، وتجلب التعاطف مع محنة المدنيين في غزّة، وتمحي الدعاية السلبية عن وحشية مقاتليها، بل وتقدّمهم في صورة مقاتلين أشاوس شجعان لا يهابون الموت، وهم يتصدّون للدبّابات والمركبات المصفحة بأيدٍ عارية وأقدام حافية، وفي الوقت نفسه، إنسانيون وعاطفيون يحملون كبار المحتجزين بين أيديهم، أو يدفعون كراسيهم المتحرّكة، ويربتون على أكتاف المرضى منهم، ويداعبون الأطفال ويحنون عليهم، ويلوّحون بأيديهم في وداع محتجزيهم الذين يودّعونهم بالابتسامات وتبادل التحايا.
لكن يجب أن نعترف أيضاً أن "حماس" ارتكبت أخطاء كبيرة في بداية هجومها أثرت كثيراً على صورتها، ولعل أكبر خطأ ارتكبته كان يوم 7 أكتوبر، عندما سمحت لمواطنين ومقاتلين غير تابعين لها، وللفصائل الأخرى المتحالفة معها، بعبور السياج الذي اخترقته للهجوم على المستوطنات، يومها انتشرت صور كثيرة غير أخلاقية لمواطنين فلسطينيين يتعاملون مع مختطفين مدنيين أو مع جثت جنود إسرائيليين قتلتهم المقاومة في طريقها نحو معسكرات الاحتلال في غلاف غزّة، ورأينا كيف استغلت إسرائيل، ومعها الإعلام الغربي المنحاز أصلاً لروايتها، تلك الصور لكسب التعاطف معها والتأليب ضد المقاومة الفلسطينية واتهامها بـ "الدعشنة".
عرفت حركة المقاومة، بوسائلها وإمكاناتها البسيطة، كيف تستخدم وسائط الإعلام ومنصّات التواصل لترويج صورة إيجابية
الخطأ الثاني الفادح الذي ارتكبته "حماس" هو التقصير الكبير، في بداية هذه الأزمة، في التواصل ونشر روايتها عما جرى يوم 7 أكتوبر، خصوصاً ما يتعلق بالانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت في ذلك اليوم، وبدأت تظهر، بعد مرور نحو 50 يوماً، شهادات إسرائيلية تنسب الكثير من الجرائم البشعة التي ارتكبت في ذلك اليوم لجيش الاحتلال الذي عمل ببروتوكل هانيبعل الذي يخوّل لهم قتل جنودهم ومواطنيهم في حالة وقوعهم في الاختطاف أو الأسر. والواقع أن أول من أثار لجوء إسرائيل إلى تفعيل هذا البروتوكول هو صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في حوار هاتفي مع قناة الجزيرة يوم 12 أكتوبر، أي بعد خمسة أيام من "طوفان الأقصى"، لكنه أشار إليه عابراً، ولم يتوقّف عنده ليشرح ما جرى بالضبط، ولم يركز إعلام "حماس" أو الإعلام العربي على توضيح هذا البروتوكول حتى صدر تقرير "هآرتس" الذي استند إلى تحقيق للشرطة الإسرائيلية، وتتالَت بعده شهاداتُ إسرائيليين وتحقيقاتٌ ومقالاتٌ صحافية جريئة، وبدأت الصورة تتّضح. وقد تصبح غداً أكثر وضوحاً، بعد أن ينكسر حاجز الخوف والترهيب الذي بثته الآلة الدعائية الصهيونية في بداية هذه الأزمة عندما صورتها حرباً بين أبناء النور وأبناء الظلام. ولعل أهم ما حقّقته هذه الحرب، رغم كل جرائمها المروّعة التي ذهب ضحيتها آلاف الضحايا الأبرياء، أنها حرّرت جزءاً كبيراً من الرأي العام الغربي من هيمنة الدعاية الصهيونية، وكشفت لهم عن الوجه الحقيقي والبشع للصهيونية وأنصارها في دولهم وعبر العالم.
لقد تحوّلت معركة الصورة إلى أكبر تحدٍّ في الحروب الحديثة، ومع الثورة المذهلة في مجال التواصل الاجتماعي، باتت معركة الصورة مُحدِّداً لتحقيق الانتصار، حيث تُظهر الدول والجيوش قوتها من خلال الصور الإنسانية التي تتركها في المخيلة الجمعية للرأي العام. وفي حروبٍ كثيرة، كان لمعركة الصورة كلمتها الأخيرة في حسم تلك الحروب ووضع نهاية لها. ولكننا، مع الأسف، في الحرب على غزّة، نحن أمام جيش بلا أخلاق في دولة بلا تاريخ تقوم على عقيدة أسطورية خرافية. ألم يشبّه رئيس وزراء هذه الدولة نفسه بالنبي التوراتي أشعياء الذي أجاز لقومه قتل الرضيع وبقر الضرع وحرق الزرع وحلّل لهم النهب والسلب، فمن يتسلّح بمثل هذه العقيدة الوحشية سيكون آخر اهتمامه هو الصورة. ومع ذلك، لا يجب الاستهانة بها، لأنها هي التي ستشهد في المستقبل البعيد عما جرى وتدين الجاني، وتُنصف الضحية، ولو بعد سنوات.