حلقة مفقودة في الإصلاح الأردني
تلخص جملة السياسي الأردني العريق ونائب رئيس الوزراء الأسبق ممدوح العبادي "إذا كانت بدها تمطر غيّمت" المزاج السائد لدى نسبة كبيرة من السياسيين وأوساط شعبية تجاه مدى الثقة بأنّ الإصلاحات القائمة في الأردن، من قوانين الانتخاب والأحزاب، ستؤدّي إلى تغييرات نوعية في الحياة السياسية.
وبالرغم من عدم التعجّل في الحكم من أحد الإصلاحيين الديمقراطيين المعروفين مروان المعشّر، إلّا أنّه يمرّر في مقالته أخيرا في مجلة "ذا إيكونومست" الهاجس الذي يحكم رؤية نخبة سياسية أردنية من تجارب الماضي، ليس فقط على صعيد عدم تطبيق توصيات لجان الإصلاح فحسب، بل أيضاً في التغيرات المستمرّة في السياسات الأردنية وقوة الديناميكيات الرافضة للإصلاح التي تتقن استراتيجية التريدميل (المشي في المكان نفسه)، فيجد الجميع نفسهم أمام النتيجة المعتادة في نهاية اليوم: العمل كالمعتاد (Business as Usual).
ما زالت هذه الشكوك والمخاوف مستمرّة وباقية بالرغم من انبثاق آليات وميكانزمات جديدة دفعت إلى حراك سياسي وحزبي، وقانون انتخاب يرفع بصورة متدرّجة، ولكن فاعلة، مقاعد الأحزاب، ومشروعات وسياسات جميعاً تؤكّد أنّ الأمور هذه المرّة مختلفة، فالمبادرة هذه المرّة انطلقت من الملك، من دون وجود أي حراك شعبي قوي وفاعل على الأرض. ومن الواضح أنّ هنالك إدراكاً بأنّ قواعد اللعبة الراهنة اهترأت، ولم تعد صالحة ولا قادرة على التعامل مع التحدّيات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية، خصوصاً مع ضغوط جيل الشباب اليوم الذي يعاني الأمرّين من الأزمات الاقتصادية، خصوصاً البطالة التي أصبحت طاعون المجتمع القاتل.
حسناً، إذاً أين الخلل ولماذا لا تنعكس هذه التغيرات بصورة ملموسة على المزاج العام؟ ولماذا تستمر الشكوك والهواجس لدى طبقة مؤثرة من السياسيين والمواطنين؟! إذا تجاوزنا الإرث السابق الذي يعطي شرعية للشكوك، ورأينا أنّنا هذه المرّة بالفعل مضينا في خطواتٍ نوعيةٍ في التشريعات والخطاب الرسمية، فإنّ السبب الرئيس يعود إلى عدم تزاوج هذه الخطوات مع رسالة سافرة قوية من الدولة تشي بانفتاح سياسي كبير في البلاد، وتحسين مناخ الحريات العامة وحقوق الإنسان وتحرير الإعلام من القيود التي أصبحت تحدّ كثيراً من دوره!
لم تتواز هذه الخطوات مع حوار سياسي حقيقي، ولو في الأروقة الخلفية، مع المعارضة السياسية الرئيسية في البلاد، بل استمرّ التوتر والخلاف بين مؤسسات الدولة والحزب الأكبر والأقوى، جبهة العمل الإسلامي، ومعه مجموعة من الأحزاب المعارضة، خصوصاً حزبي الشراكة والإنقاذ والوحدة الشعبية، بالإضافة إلى مجموعات الحراك المختلفة، فبدت الصورة وكأنّ هذه القوى والمجموعات خارج إطار التحوّل الراهن، وهو أمرٌ لا يخدم شرعنة العملية وإعطاءها زخماً شعبياً وإدماج المزاج الشعبي في هذا المناخ كما حدث، على سبيل المثال، في عام 1989.
صحيحٌ أنّ هنالك مياهاً كثيرة جرت تحت الأقدام منذ عقدين، وأنّ الزواج المصلحي الذي قام بين النظام والإخوان المسلمين انتهى إلى غير رجعة، وأنّ الشكوك لدى دوائر القرار أصبحت حقائق، بل ارتقت إلى مرتبة "العقيدة" في الموقف من الجماعة، لكن ذلك لا ينفي حقيقةً ساطعةً واضحةً أمام الجميع أنّ جبهة العمل الإسلامي ما زالت القوة السياسية الرئيسية في البلاد وحزب المعارضة الذي لا يوجد منافس له، إلى أن يكون هناك منافسون قادرون فعلاً على بناء قواعد اجتماعية- شعبية فاعلة.
حتى ذلك الحين، لا يمكن تجاهل أهمية الحوار السياسي والتفاهم مع الحزب، ليس على قاعدة الصفقة المؤقتة (تبادل الخدمات)، بل التوافق والتفاهم على مراحل المرحلة المقبلة، ورسائل "حسن النيات" وتبادل الضمانات المطلوبة، والأمر نفسه ينطبق على أحزاب وقوى وتجمّعات أخذت مساراً راديكالياً، من وجهة نظر المؤسسات الرسمية، لكنّ ذلك من الضروري أنّ يفهم في سياقاته، وفي مقدّمتها غياب الحوار العميق معهم، والظروف الاقتصادية والسياسية وزوايا النظر الحادة لدى أصحاب الرؤوس الحامية، سواء من هذا الطرف أو ذاك.
واضحٌ أنّ التحدّيات الداخلية والخارجية لم تنتهِ، بل هي في صعود مستمرّ، وتتحوّل في بعضها إلى مصادر تهديد، وهنالك بواعث معتبرة للقلق من المرحلة المقبلة. ومن دون مصالحات وتفاهمات داخلية، قد تطيح التطورات المسار الحالي من الإصلاح، وتخلق مسارات أو سياقات أخرى!