حكومة في مصر خجولة وجشعة
رغم الارتفاعات المستمرّة في أسعار كل شيء في مصر، فإن الحكومة المصرية تبدو في أزمة الغلاء كالضيف الخجول عند التّجار والمستوردين، فتستحي أن تطلب شيئاً منهم، وتكاد تتسوّل منهم الرفق بالمواطن، ولو ظاهرياً. ولا تجرؤ على اتخاذ أي قرار أو إجراءٍ بحقّ أي منتج أو بائع يُغالي في أسعار مبيعاته، فضلاً عن فرض سعرٍ عادل لأي سلعة.
وفي الوقت ذاته، لا تتورّع الحكومة عن رفع أسعار كل الخدمات التي تقدّمها للمواطنين، تارّة بحجّة رفع الدعم ومجاراة الأسعار العالمية، وتارّة بذريعة التكلفة الحقيقية، وتارّة ثالثة بلا تبرير ولا تفسير. تلك الحكومة الخجولة مع القطاع الخاص هي نفسها شديدة الجشع والطمع فيما بين أيدي المواطنين، كما لو كانت تشارك التجار وأصحاب الأعمال الرؤية الاستغلالية والعقلية الاحتيالية.
أعلن رئيس الوزراء قبل أيام أن الحكومة بصدد دراسة كيفية مواجهة ارتفاع الأسعار وإمكانيتها، ليس بخفضها جبراً أو تحديد نطاقٍ مناسبٍ لهامش الربح، وإنما فقط بأن يعلن التّجار عن الأسعار مسبقاً وتوضيحها على المنتجات، وكأن الإعلان المسبق عن السعر سيُخجل التجار، فيستحون ويخفضون الأسعار المبالغ فيها.
بالإضافة إلى هذه الخطوة التي لا تزال قيد البحث والدراسة، قرّرت الحكومة تشكيل لجنة دائمة تابعة لمجلس الوزراء لمتابعة أسعار السلع الغذائية الاستراتيجية دوريا، وكذا دراسة استصدار قرار من مجلس الوزراء بتحديد السلع الغذائية الرئيسية فترة محدّدة، وفقا لمواد قانون حماية المستهلك.
هناك قصورٌ واضحٌ في إدراك المسؤولين في مصر جوهر الدولة ودورها الوظيفي في خدمة المجتمع، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي أو الاقتصادي، ففي أعتى الدول الرأسمالية، بما فيها التي تتبع "الليبرالية الجديدة"، أكثر المدارس الاقتصادية تطرّفاً في عزل الدولة عن مهامها المجتمعية، تلتزم الدولة بحدّ أدنى من المهام المجتمعية في مختلف المجالات، في التعليم والصحة والتوظيف وتنظيم الحياة العامة. أما في مصر، فالعقول التي تدير الدولة تعمل دائماً بمنطق "كل شيء أو لا شيء"، فإما هي دولة اشتراكية، تملك وتدير وتمنح وتمنع وتسيطر على كل مناحي الحياة، ولا تسمح بأي حراكٍ أو نشاطٍ خاص، لا في الاقتصاد ولا في غيره، أو تطبّق اقتصاد السوق بشكل مطلق وكلي، فتطلق أيدي القطاع الخاص والفردي في التحكّم بحياة المواطنين من دون قيود ولا رقابة.
الأدهى أن سلطة الحكم تمارس بنفسها هذا المنطق الاستغلالي في ما تقدّمه للمواطنين من خدمات أو مهام. بل كثيراً ما تكون هي البادئة برفع أسعار السلع والخدمات، فيتبعها القطاع الخاص فوراً. بل تبحث الحكومة المصرية عن أوجهٍ جديدةٍ لتحصيل الأموال من المواطنين، حتى وصل الأمر إلى صدور تعديلاتٍ جديدة على قانون تنظيم انتظار السيارات في الشوارع، بهدف فرض رسوم جديدة، وإضافة مصدر جديد للجباية من المواطنين.
وفي كل الأحوال، تتذرّع الحكومة المصرية أمام المواطنين بأسبابٍ خارجية. بدأت بالكوارث الطبيعية، مثل وباء كورونا، ثم الأزمات العالمية ممثلة في الحرب الروسية الأوكرانية، ثم أخيرا الحرب في غزّة. لكنها لا ترى لإخفاقاتها وسوء إدارتها وتخاذل الأجهزة الرقابية لديها أي دور في ما يخضع له المصريون من استغلال واستنزاف.
يوجد في مصر جهاز لحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وجهاز لحماية المستهلك، وقطاع للرقابة على السلع الغذائية تابع لوزارة التموين والتجارة الداخلية، فضلاً عن الرقابة الصناعية والإدارات الشرطية المختصة. ورغم ذلك التعدّد والتنوع في الأجهزة الرقابية الحكومية، لم تعُد لأيٍّ منها جدوى لدى المواطنين ولا احترام لدى التجار والمنتجين. والنتيجة المنطقية لتلك التناقضات أن أصبحت الحكومة المصرية تستأسد على مواطنيها، وهي مع التجار وأصحاب الأعمال نعامة.