حكومة دمشق وبناء توازنات جديدة للمنطقة

10 يناير 2025

رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في مؤتمر صحفي مشترك في دمشق (22/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

شكّل سقوط نظام الأسد ضربةً قاصمةً لمحور المقاومة الذي بنته إيران في المنطقة، فلم تعد سورية منطقة نفوذٍ روسية بعد الآن؛ كما أن الابتعاد عن الدولتَين هو من أكثر شروط الساسة الغربيين على حكام دمشق الجدد أهميةً، إذ اشتُرِطَ استثناء "المعاملات مع أو نيابة عن كلّ من روسيا وإيران" ضمن قرار الخزانة الأميركية أخيراً بتخفيف بعض العقوبات عن القطاعات الأساسية. هذا يعني أنه سيكون لسورية دورٌ أساس ضمن ترتيباتٍ جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وهذا يُفسِّر الحراك الدبلوماسي المحموم، الدولي والإقليمي والعربي، الذي بدأ منذ اللحظات الأولى لسيطرة الحكام الجدد على دمشق، والذي يعني اعتراف تلك الأطراف بأحمد الشرع، ومن معه، حكّاماً فعليين لسورية.

قال الشرع في اللقاء معه في قناة العربية أن كتابة الدستور تحتاج سنتين أو ثلاثة، وإجراءَ انتخاباتٍ يحتاجُ إلى أربع سنوات، فيما كان هناك حديثٌ عن مؤتمر وطني لم يُحدَّد المدعوون إليه ولا توقيتُه، ولم تُصدِر القيادة الجديدة أيَّ قرارات بهذا الخصوص. هذا يعني أن هذه السلطات ستحكم في السنوات المقبلة من دون صفة شرعية، وربّما تقع عليها في هذه السنوات مهامّ صعبة ومنها نسجُ شبكة علاقات جديدة مع دول المنطقة تُحقّقُ المصالح المتشابكة لتلك الدول في سورية. لكن يمكن القول إن جميع الدول التي التقت بالقيادة الجديدة عبر زيارات دبلوماسية تراهنُ على قدرتها على تحقيق التوازنات.

خفَّفت الإدارة الأميركية العقوبات على الحكومة السورية في بعض القطاعات المتعلقّة بالطاقة والتربية والصحّة والمياه وغيرها، لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى سورية، ولستّة أشهر، في خطوة تدلّ على دعم هذه الحكومة، واختبار قدرتها على الإدارة الداخلية، خاصّة ما يتعلّق بتوفير الأمن وإعادة بناء مؤسّسات الدولة ومنها الجيش، وإنهاء الحالة الفصائلية، ومنع ظهور تنظيم "داعش" وتوحيد البلاد، وعدم حصول انتهاكات بحقّ الأقليات. وخارجياً مراعاة المصالح الأميركية في المنطقة، وعلى رأسها الابتعاد عن إيران وروسيا، وقد تحقَّق ذلك لخمسين سنة، حسب قول الشرع، وألا تُشكّل سورية خطراً على أمن دول الجوار، ويُقصَد هنا إسرائيل، وقد احتلت الأخيرة مواقع جديدة في الأراضي السورية، ودمّرت ما تبقّى من السلاح السوري بهجماتها الماضية في كامل الأراضي السورية، وليس في وسع الحكّام الجدد غير مطالبة الأمم المتحدة بإدانة تلك الاعتداءات.

راهنت قطر على دعم الثورة السورية من البداية، ولم تقبل مصالحة نظام الأسد، وكسبت الرهان

راهنت السعودية، ودول عربية أخرى، في السابق، على إعادة تأهيل الأسد بإعادة مقعده إلى جامعة الدول العربية، وتبادل فتح السفارات معه، في مقابل أن يترك الحضن الإيراني، ويحارب تجارة الكبتاغون عبر الحدود الأردنية. فشل هذا الرهان لأن العلاقة بين نظام الأسد وطهران كانت عضوية، ولأن الفساد وجني أرباح الاتجار بالمخدرات كانا عنوان السنوات الأخيرة من حكمه؛ وقد بدا بسقوطه السريع أنه كان نظاماً من ورق. أرسل الشرع رسائل إيجابية تجاه السعودية، وكانت الأخيرة محطّةً لأوّل زيارة رسمية للوفد السوري الجديد، قبل أن يُكمل طريقه إلى قطر والإمارات والأردن؛ وتبدو كل هذه الدول مرحِّبة بالحكومة الجديدة. السعودية والإمارات والأردن غير راغبة بأن يسيطر الإخوان المسلمون على دمشق، ولا أن تكون سورية منطقة نفوذ لتركيا، وقد أشيع عن نية الأخيرة بناء قاعدتَين عسكريتَين وسط سورية، وهي كانت داعمةً عمليةَ ردع العدوان منذ انطلاقتها. كما أن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت قد حذَّرت من الوجود التركي في سورية ومن تمكين أنقرة من تحريك قوَّاتها العسكرية داخل سورية. وعلى ذلك، هناك توافق بين هذه الأطراف على تحجيم النفوذ التركي المتضخِّم في سورية.

كانت مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا من القضايا الملحَّة في أجندة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وبسببها، طلب من الأسد المصالحة، وكانت ستحصل لولا أن الأخير رفضها، وقد حُلَّت بسقوطه. أما تهديدات عناصر حزب العمّال الكردستاني الموجودين في سورية ضمن تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فهي المشكلة الأكبر التي بسببها تدعم تركيا فصائل سورية تسيطر على المناطق الحدودية، وتهدّد بدخول عين العرب (كوباني). يبدو أن حلَّ المسألة الأمنية التركية، وكذلك ضمّ مناطق شرق الفرات إلى الإدارة الجديدة في دمشق، ينتظر تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم في الـ20 من الشهر الجاري (يناير/كانون الثاني)، بسبب تعقيدات المهمَّة، خاصّة ما يرتبط بمحاربة تنظيم داعش، ومصير عائلات مقاتليه في مخيَّمَي الهول وروج. توحيد الأراضي السورية سيعني أيضاً حلَّ الفصائل المدعومة من تركيا، وقد يتم التوافق مع الحكومة السورية على صيغة جديدة لاتفاق أضنة لعام 1998، وعلاقات تجارية جيدة بين البلدَين، وربّما استثمارات مستقبلية، ومنها إحياء مشروع ضخّ الغاز القطري عبر سورية إلى تركيا والاتحاد الأوروبي.

توافق بين معظم الدول المعنية بالشأن السوري على دعم الحكّام الجدد

راهنت قطر على دعم الثورة السورية من البداية، ولم تقبل مصالحة نظام الأسد، وكسبت الرهان. وهي اليوم داعمٌ كبير للحكومة الجديدة، وتتطلّع إلى علاقات متينة، سياسية واقتصادية، مع سورية. أمّا الأوروبيون، فقد صمتوا عن مجازر نظام الأسد التي ترقى إلى وصفها بالهولوكست السوري، والتي تسببت بأزمة لجوء إلى أوروبا. يريد الأوروبيون الاستقرار في سورية، وعدم حصول موجات هجرة جديدة، وإعادة جزء من اللاجئين السوريين إليهم، لذلك يتوافدون إلى دمشق للقاء الحكومة الجديدة، في خطوة فيها اعتراف بها، مع فرض الشروط، وبأسلوب استعلائي بدا في زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا.

هناك توافق بين معظم الدول المعنية بالشأن السوري على دعم الحكّام الجدد في توحيد الأراضي السورية وتحقيق الاستقرار فيها في السنوات المقبلة. وفي المقابل، تُحسِن الحكومة الجديدة بقيادة الشرع تقديم صورة مستقبلية لسورية جديدة لا تتدخّل في دول الجوار، ولا تصطفّ في أيّ محاور إقليمية. يبدو أن واشنطن والأوروبيون يُفضِّلون أن تظلَّ هذه الحكومة ضعيفة، وهم يملكون كل أوراق الضغط عليها، خاصَّة أن قادتَها ما زالوا يُصنَّفون إرهابيين، وإن اجتهدوا في تقديم صورة غير ذلك؛ وهم سيبررون أيّ اعتداءات إسرائيلية جديدة تستهدف إمكانية بناء حكومة دمشق القدرات العسكرية السورية.