حكومة تكذب ولا تتجمّل

05 سبتمبر 2022
+ الخط -

"أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل"... فيلم أنتجه التلفزيون المصري عام 1981 عن رواية لإحسان عبد القدوس. طالب جامعي شديد التفوق، ينتمي إلى أسرة شديدة الفقر تقيم في المقابر، فيتنصّل من أصوله ويهرب من فقره بالادّعاء كذباً انتماءه إلى طبقة اجتماعية أعلى، لكي ينتسب إلى تلك الطبقة، ويتزوج زميلته الطالبة الثرية ابنة أستاذه في الجامعة. وبعد أن يكذب البطل على الجميع، ينكشف كذبه أمام الجميع، ويخسر كلّ شيء: الزواج بحبيبته، مستقبله الجامعي، وقبلهما احترام أهله. ومثلما أبدع إحسان في وصف عقلية وشخصية ذاك الكاذب المُتجمّل وتصويرهما، تألق أحمد زكي في تجسيد عقد البطل النفسية وتناقضاته على الشاشة.
ما تقوم به السلطة في مصر حالياً مشابه تماماً لما فعله بطل الرواية والفيلم. لكن ثمّة فارق جوهري بين كذب البطل الرومانسي الحالم وكذب الساسة الخُبثاء، فالأول كذب على نفسه بالأساس، وعاش الوهم حتى كاد يصدّقه، أما السلطة في مصر فتعي جيداً ما تفعل، وتكذب وهي في كامل قواها العقلية. لذلك، تكذب وتتفنن في الكذب، لا للانتقال إلى مرحلة أفضل، أو حتى مؤقتاً، حتى تجاوز الأزمة والخروج من المأزق، وإنما لمداراة إخفاقاتها المتتالية، وفقط.
من الأكاذيب الكبرى للحكومة المصرية، أن أزمتي كورونا ثم أوكرانيا هما السبب وراء تعثر الاقتصاد المصري والتضخّم الرهيب الذي ضرب مستوى معيشة المصريين في مقتل. والواقع أن الأزمتين بالفعل سبّبتا تداعيات سلبية على اقتصادات دول العالم كافة. بدأت بفترة الإغلاق المرتبطة بانتشار فيروس كوفيد - 19، إذ أفضت إلى توقف أنشطة القطاع الخدمي، مثل السياحة والسفر والشحن وخدمات النقل البحري والجوي. ثم جاءت الخسائر الحقيقية الكبيرة بسبب أزمة أوكرانيا، وتكبّدتها فقط الدول التي لا تملك مقومات اقتصاد قوي من الأساس، التي تعتمد على الاستيراد في كل المجالات، ولا تملك صناعات ثقيلة أو متوسّطة أو حتى تحويلية، لأنها لم تستطع مقاومة ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب والأسمدة والألمنيوم وغيرها من السلع والمواد التي توقّف تصديرها من أوكرانيا وروسيا.
والحقيقة أن مصادر الدخل القومي لمصر تتمحور حول السياحة ورسوم العبور في قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج. وقد تضرّرت جميعها بشدة جرّاء جائحة كورونا. ولأن اقتصاد مصر ليس صناعياً ولا حتى زراعياً، فإن موجة التضخّم العالمية التي اجتاحت العالم بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، ضربت ما بقي لدى اقتصاد مصر من قدرة على المقاومة. 
من هنا، اجتمعت نقاط الضعف الهيكلية مع سياساتٍ خاطئةٍ ومشروعات استنزافية متواصلة منذ سنوات، لتجعل الاقتصاد المصري في حالة إفلاسٍ غير معلن. ورغم ذلك، استمرّت السلطة المصرية، منذ 2020 (ثلاث سنوات)، في بناء جسور غير ضرورية وتأسيس مدينة كاملة جديدة لا مبرّر لها. والأهم أنها لم تشرع في بناء مصنع واحد أو مشفى أو مدارس. ولم تتجه إلى استصلاح أراضٍ زراعية جديدة، علها تخفف وطأة ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وفي مقدمتها القمح.
ولا يكتفي مسؤولو الدولة المصرية بالكذب في أسباب الانهيار الحاصل، لتحميل المسؤولية عنه إلى أزمتي كورونا وأوكرانيا، لكن الأدهى أنهم لا يبذلون أي جهد حقيقي لتصحيح المسار أو اتخاذ إجراءاتٍ جديدة لوقف التدهور الاقتصادي المتسارع. 
ثم تمعن الحكومة المصرية وإعلامها في الكذب على المصريين، بزعم أن الجسور والطرق والبنايات الشاهقة والتجمّعات السكنية الفخمة إنجازات جديرة بالفخر والزهو. وعلى خلاف بطل رواية إحسان عبد القدوس، تمضي الحكومة المصرية في الكذب إلى ما لا نهاية وبلا أي تجمّل. وهو ما يُذكّر ببالون أكاذيب كبرى، ظل الإعلام المصري ينفخ فيه حتى انفجر في وجوه المصريين في يونيو 1967.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.