حكومة الكاظمي وسبل مواجهة الهيمنة الإيرانية
طوال سنوات، ظلّ العراق ضحية الفشل العسكري والسياسي الأميركي، والتدخلات الإيرانية في شؤونه. وفي منطقةٍ مستقطبة بين حلفاء إيران والولايات المتحدة، مثّل العراق استثناء فريدا حين ربطته مع كليهما علاقات وثيقة، لكن هذا جعله عرضةً دائما لخطر أن يصبح ساحة معركة لحرب بالوكالة. مع هذا الاستثناء، ظلّت الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ العام 2003، عاجزةً عن اتخاذ موقف يضع الأمور في نصابها بشأن العلاقة بين الطرفين، وظلّ الفلتان الأمني وعدم الاستقرار سيدَي المشهد العراقي، نتيجة تعدّد مراكز القوى. واليوم يحاول رئيس وزراء جديد إنشاء نموذج مختلف للعراق، يؤكّد على السيادة، ومكافحة الفساد، ويتقرّب من المحتجين الذين تظاهروا في الشوارع، ويريد علاقة مساعدة عسكرية مستدامة مع واشنطن، وحصر السلاح بيد الدولة في مواجهة الفصائل المسلحة الموالية لإيران التي لم تؤيد صراحةً تكليف مصطفى الكاظمي، رجل الاستخبارات الأسبق المقرّب من أميركا، لقيادة الحكومة الجديدة، إلا أنها لم تعترض عليه بوصفه قناة اتصال مفيدة وغير مباشرة مع الإدارة الأميركية. سعى الكاظمي إلى إمساك العصا من المنتصف، محاولا إعادة التوازن إلى علاقات العراق بالخارج، وحاول أن يوفق بين متناقضات؛ التقارب مع الولايات المتحدة من دون أن ينفجر في وجهه سخط المعارضين لها، والحد من تنامي النفوذ الإيراني من دون أن يمسّ بمصالحها الحساسة. يعوّل الكاظمي على تحقيق هذا التوازن، لتأمين الإستقرار في الداخل العراقي.
سعى الكاظمي إلى إمساك العصا من المنتصف، محاولا إعادة التوازن إلى علاقات العراق بالخارج
أطلق هجوم ديسمبر/ كانون الأول 2019 على الجيش الأميركي في كركوك سلسلة من الهجمات الانتقامية المتبادلة بين واشنطن وطهران، بدءا باغتيال القوات الأميركية قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ومعه القائد في الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، مرورا بإطلاق صواريخ إيرانية على قاعدة الأسد الجوية الأميركية، وانتهاء بصواريخ أطلقها عناصر مليشيا موالية لإيران على موقع قرب مطار أربيل الدولي، يتمركز فيه جنود أميركيون. وعلاوة على الأوضاع الأمنية غير المستقرّة، يواجه الكاظمي أزمة اقتصادية نتيجة الهبوط الحاد في أسعار النفط، وصحيّة مع تفشي وباء كورونا، ولن يكون بحاجةٍ إلى حربٍ بالوكالة تندلع على الأراضي العراقية.
بعد مقتل سليماني والمهندس في بغداد، في يناير/ كانون الثاني الماضي، أصبح وجود القوات الأميركية قضية رئيسية في العراق، وتحوّلت جنازتهما إلى مظاهرة كبيرة ضد الولايات المتحدة، وهاجم المشيّعون السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، وصوّت مجلس النواب العراقي لصالح قرارٍ يدعو الحكومة العراقية إلى العمل على إنهاء أي وجودٍ للقوات الأجنبية في العراق، وهو القرار الذي اعتبرته الخارجية الأميركية بمثابة "خيبة أمل"، ودعت السلطات العراقية إلى إعادة النظر فيه. وقد كان الانسحاب من العراق أحد الملفات الحساسة التي بحثها الكاظمي مع الإدارة الأميركية في زيارته واشنطن (بدأها في 18 أغسطس/ آب الماضي)، مع علمه أن من السابق لأوانه حسم تلك المسالة في ظل استمرار تغلغل النفوذ الإيراني. والخشية من أن يصبّ الانسحاب الأميركي في مصلحة إيران، لكنه لم يكن يرغب في العودة لمواجهة الداخل العراقي من دون أن يحقق نتائج على هذا الصعيد، وكان من نتائج تلك المباحثات إعلان الرئيس دونالد ترامب عزمه سحب القوات الأميركية تدريجيا من العراق خلال ثلاث سنوات. وحرصا منه على ألا يظهر بمظهر الخاضع للإملاءات الأميركية، أقنع المسؤولين الأميركيين، في شأن العلاقة مع إيران، أن القضاء على النفوذ الإيراني يتطلب فترة تتجاوز عمر حكومته المؤقتة، وأن أولوية حكومته هي تجاوز الأزمتين، الإقتصادية والصحية، وإجراء الإنتخابات.
واقع سياسي عراقي هَش قائم على المحاصصة الطائفية، والاعتماد في مختلف شؤونه على قوى أجنبية
وفي خطوة لاحقة، أعلنت الإدارة الأميركية، في 9 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) عن تقليص الوجود العسكري لقواتها في العراق في أكبر تخفيض منذ العام 2016 (من 5200 جندي إلى 3000). وعلى الرغم من أن ذلك كان في سياق وفاء ترامب لوعوده الإنتخابية، وبغية تقليص احتمال تعرّض تلك القوات لحوادث دامية قد تؤثر سلبا على حظوظ ترامب في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أنه بدا أيضا دعما لحكومة الكاظمي.
وتكثفت، في الأسابيع الأخيرة، الهجمات الصاروخية بالقرب من السفارة الأميركية في بغداد، واستهدفت مفخّخات وهجمات مسلحة قوافل أميركية وبريطانية، الأمر الذي أفقد الإدارة الأميركية الثقة بقدرة الكاظمي على لجم المليشيات المسلحة، لتضغط على حكومة الكاظمي مهدّدة بإغلاق سفارتها في بغداد. وجاء هجوم 30 سبتمبر/ أيلول ليحمل رسالة مفادها بأن المليشيات المسلحة الموالية لإيران متمسّكة بأجندتها الرامية إلى صياغة الواقع السياسي والأمني بما ينسجم مع الأولويات الإيرانية، وليقلب الطاولة على محاولات رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وجهوده الحثيثة، لثني الإدارة الأميركية عن قرارها بإغلاق السفارة، إذ يُخشى من أن يتبع انسحاب الدبلوماسيين عمل عسكري ضد القوات التي تحمّلها واشنطن المسؤولية عن الهجوم. تبدو الأمور وكأنها تخرج من بين يدي الكاظمي وحكومته، فمحاولة إمساك العصا من المنتصف، ترضيةً لطرفي الصراع الأميركي والإيراني، قد تحقق له مكاسب مرحلية محدودة، لكنها في ظل واقع سياسي عراقي هَش قائم على المحاصصة الطائفية، والاعتماد في مختلف شؤونه على قوى أجنبية، لن تكون حاسمةً على المدى الطويل، بل قد تؤثر سلبا على سيادة الدولة العراقية وتماسكها، وتُعرّضها لخطر التفكك إلى مجاميع متنوعة الولاءات.
تحوّل الرأي العام في العراق بحدّة ضد الجماعات السياسية التي يُنظر إليها أنها تحرّض على العنف نيابةً عن إيران
منذ العام الماضي، تحوّل الرأي العام في العراق بحدّة ضد الجماعات السياسية التي يُنظر إليها على أنها تحرّض على العنف نيابةً عن إيران، وتتعرّض المليشيات لضغوط عامة لكبح جماحها من الكتل السياسية السنّية والكردية، والشيعية أيضا، ولكنّ الولايات المتحدة تُصرّ على الوسائل العسكرية الصارمة لحماية قواتها، وردع استفزازات المليشيا المدعومة إيرانيا، إلا أن تلك الوسائل لم تردع المليشيات، ولم تؤمن الحماية لقواتها هناك، بل إن استمرارها قد يعيد إلى تلك المليشيا رصيدها الشعبي بوصفها "مقاومة" للاحتلال الأميركي. من جهة أخرى، تحوّلت القوات الأميركية الموجودة في العراق إلى عبء، ولم تعد رصيدا في صالح الإدارة الأميركية في مواجهة إيران، فهي مكبّلة في قواعد كبيرة، وباتت رهينة للقوة العسكرية الإيرانية في المنطقة، وبإمكان إيران أن تُصعّد ضد القوات الأميركية في العراق كما تشاء، مع بعض الإنكار، عبر وكلائها العراقيين في مليشيات الحشد الشعبي، أو تحميل المسؤولية لمجموعات تزعم أنها منشقّة عنها.
إن تكلفة البقاء الأميركي في العراق أكثر خطورةً، فقد تؤدّي إلى تكريس النفوذ الإيراني، أما تقويضه فبات يقتضي انتصارا للوطنية العراقية الحقيقية التي تجلّت بوضوح في موجة الاحتجاجات ضد الفساد التي لم تهدأ إلا أخيرا. لم يعد العراقيون يقبلون التبعية لأي طرف، وهم يناضلون اليوم من أجل الإستقلال الحقيقي، فقد حظي سعي الكاظمي إلى لجم المليشيات المسلحة بمباركة آية الله السيستاني، صاحب الفتوى السابقة بـ "الجهاد الكفائي"، وحتى الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، المناهض للاحتلال الأميركي بات من معارضي التدخل الإيراني في شؤون العراق. إن مزيدا من الصواريخ الأميركية تستهدف رجال المليشيا العراقية تمسّ، أيضا، السيادة العراقية، وتزعزع الشعور الوطني لدى بعض العراقيين المتردّدين الذين سيلجأون إلى إيران. على الولايات المتحدة الأميركية سحب قواتها من العراق بعد حوالي عقدين من جهودها الدموية وغير المُجدية، أما مواجهة الهيمنة الإيرانية فلتترك للعراقيين أنفسهم. هذا ما يجب أن تستوعبه أي حكومةٍ عراقيةٍ تريد تجنّب إخفاقات الحكومات العراقية السابقة.