06 نوفمبر 2024
حكم رابعة: إعدام المعنى
لسنا بصدد أحكام قضاء، بالمعنى المتعارف عليه لمنظومة العدالة التي تقوم على أدلة اتهامٍ واضحة، والحق الكامل في الدفاع والرد، ونزاهة من بيده إصدار الأحكام وحياديته، وقبل ذلك وبعده، إعلاء قيمة احترام القانون. كان ذلك كله غائباً، ومخسوفاً، مثل القمر الدامي الذي تابعته في السماء قبل أيام، فيما خصّ قضية الاعتصام في ميدان رابعة العدوية. كان الأمر أشبه بعمليات تصفيةٍ جسديةٍ، تقوم بها قوات أمنية تمارس القتل خارج القانون، ومن دون أن يرتدي مصدّرو الأحكام الأقنعة وسترات الاقتحام العنيف، دوّى الرصاص في منطوق الحكم، وأريقت الدماء فوق منصة العدالة. يستبق عبد الفتاح السيسي الذكرى الخامسة لمذبحة القرن، بمحاولة إشعال النار في المعاني والمبادئ التي تأسس عليها اعتصام رابعة، وهي حزمة القيم الإنسانية والسياسية المحترمة التي تبقى تطارده في حياته ومماته، فيصوّر له قصورُه العقلي أنه قادر على اغتيالها، بعد أن اغتال حامليها ومعتنقيها. في لحظة الحكم بالإعدام على المعنى، كان السيسي يهين القيم العسكرية، بفقرةٍ استعراضيةٍ، تشبه شغل الحواة، حين يطلب من بطل المذبحة الأولى الصعود إلى خشبة المسرح، لكي يلهو الصغار بعملية تجريده من رتبته العسكرية القديمة، ووضع رتبةٍ أعلى على كتفيه، في مشهدٍ ينافس أفلام نادية الجندي في إسفافها وابتذالها، ليتمدّد الحكم بإعدام معتصمي رابعة، ويشمل منطوقه منح ترقيةٍ استثنائيةٍ للقتلة، تكريساً لمبدأ مكافأة الجناة، والإمعان في التنكيل بالضحايا.
وكما كانت جريمة رابعة منتهى التوحش والهمجية، كذلك تأتي الأحكام ضد من بقوا أحياء، والهدف الأول في الحالتين هو القضاء على فكرة الرفض والمعارضة، بحيث لا يبقى على أرض مصر من يفكر في التظاهر والاحتشاد.. والثورة، أو بتعبير الراحل أحمد سيف الإسلام "القضاء على عصر الجماهير بوصفها قوة للتغيير".
يعرف السيسي كيف يسوّق مذابحه، إذ سبق مجزرة الأحكام الجديدة ذهاب مندوبه وكاتم أسراره، مدير مخابراته عباس كامل، إلى واشنطن، واستقبال وفد مستثمرين صهاينة في القاهرة، ليعود الأول بتسييل المعونة الأميركية المجمّدة، ويغادر الوفد الإسرائيلي مطمئناً إلى أن رجلهم في القاهرة مستمر في تقديم المطلوب منه، منذ وضعوه في السلطة قبل خمسة أعوام.
وفي الداخل، ألقى السيسي لمعارضيه ببالون هاشتاغ الرحيل الذي يُغضبه، فيعلن بالتزامن مع مذبحة الأحكام أنه "زعلان" من الوسم الذي يطالب برحيله، فينصرف الناس عن مأساة أحكام الإعدام، وتندلع موجات السخرية ويتجدّد الحشد الإلكتروني حول "ارحل يا سيسي"، ويطير الغضب في الفضاء الإلكتروني، بينما كل شيء يمضي في طريقه المرسوم على الأرض: عمليات ذبح بالجملة على منصّات القضاء، ولا ردة فعل حقيقية هناك.
كانت "رابعة" الموقف الذي استسلم فيه الجميع لفكرة الحياة من دون ضمير، ولو لوقت مستقطع، خصوصاً على مستوى النخب السياسية والإعلامية. هكذا سلك بعضهم خوفاً، وآخرون طمعاً، وجلهم من باب الانتهازية، فصار منهم قناصة، مثل المجموعات التي تمركزت أعلى البنايات المطلّة على الاعتصام، وصبّت رصاصها على النساء والأطفال والرجال والشيوخ، لينتهي الأمر بأن الدماء طاولت الكل الذي ضغط على الزناد، وحرّض بالقلم، والذي قصف بالميكروفون، والذي صمت رعباً، والذي رقص انتشاءً، والذي صفّق إيثاراً للسلامة، فتحول الوطن إلى بحيرة دماء، لم تجفّ حتى الآن.
وكما كانت جريمة رابعة منتهى التوحش والهمجية، كذلك تأتي الأحكام ضد من بقوا أحياء، والهدف الأول في الحالتين هو القضاء على فكرة الرفض والمعارضة، بحيث لا يبقى على أرض مصر من يفكر في التظاهر والاحتشاد.. والثورة، أو بتعبير الراحل أحمد سيف الإسلام "القضاء على عصر الجماهير بوصفها قوة للتغيير".
يعرف السيسي كيف يسوّق مذابحه، إذ سبق مجزرة الأحكام الجديدة ذهاب مندوبه وكاتم أسراره، مدير مخابراته عباس كامل، إلى واشنطن، واستقبال وفد مستثمرين صهاينة في القاهرة، ليعود الأول بتسييل المعونة الأميركية المجمّدة، ويغادر الوفد الإسرائيلي مطمئناً إلى أن رجلهم في القاهرة مستمر في تقديم المطلوب منه، منذ وضعوه في السلطة قبل خمسة أعوام.
وفي الداخل، ألقى السيسي لمعارضيه ببالون هاشتاغ الرحيل الذي يُغضبه، فيعلن بالتزامن مع مذبحة الأحكام أنه "زعلان" من الوسم الذي يطالب برحيله، فينصرف الناس عن مأساة أحكام الإعدام، وتندلع موجات السخرية ويتجدّد الحشد الإلكتروني حول "ارحل يا سيسي"، ويطير الغضب في الفضاء الإلكتروني، بينما كل شيء يمضي في طريقه المرسوم على الأرض: عمليات ذبح بالجملة على منصّات القضاء، ولا ردة فعل حقيقية هناك.
كانت "رابعة" الموقف الذي استسلم فيه الجميع لفكرة الحياة من دون ضمير، ولو لوقت مستقطع، خصوصاً على مستوى النخب السياسية والإعلامية. هكذا سلك بعضهم خوفاً، وآخرون طمعاً، وجلهم من باب الانتهازية، فصار منهم قناصة، مثل المجموعات التي تمركزت أعلى البنايات المطلّة على الاعتصام، وصبّت رصاصها على النساء والأطفال والرجال والشيوخ، لينتهي الأمر بأن الدماء طاولت الكل الذي ضغط على الزناد، وحرّض بالقلم، والذي قصف بالميكروفون، والذي صمت رعباً، والذي رقص انتشاءً، والذي صفّق إيثاراً للسلامة، فتحول الوطن إلى بحيرة دماء، لم تجفّ حتى الآن.