حفتر والرد الجزائري القاسي

02 يوليو 2021
+ الخط -

لم تكن عبارات رئيس الأركان الجزائري، الفريق السعيد شنقريحة، التي أوردها بيان لوزارة الدفاع الجزائرية، في 29 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، دبلوماسيةً على الإطلاق، فهي تشير لأول مرة في الجزائر إلى خليفة حفتر بالصفات، لا بالاسم، وتصفه من دون ذكر اسمه، بأنه "من الأطراف المريضة، المتعطّشة للسلطة"، وبأنه من "المعتوهين والمتهورين"، قبل أن يطلق تحذيره في صيغة تهديدٍ شديد اللهجة أن الرد الجزائري على استفزازات حفتر التي أعقبت إعلان مليشياته قبل أيام غلق الحدود بين الجزائر وليبيا، واعتبارها منطقة عسكرية، يحظر التحرّك فيها، عقب اداعاءاتٍ بالسيطرة على معبر حدودي بين البلدين .. سيكون "قاسيا وحاسما ضد كل من تسوّل له نفسه من مغبّة المساس بسمعة وأمن الجزائر وسلامتها الترابية".

إذن، تغيّرت اللهجة الجزائرية تجاه حفتر كثيرا، فقد سبق أن هدّد هذا العقيد المهزوم في حربي تشاد وطرابلس الجزائر صراحة قبل ثلاث سنوات، بتحويل الحرب من ليبيا إليها، لكن الجزائر وقتها لم تشأ الرد عليه، فقد كان وقتها أقلّ من أن يثير انتباهها، قبل أن يتحوّل حفتر، بشكل كبير، إلى مجرد بيدق في أيدي قوى أجنبية عديدة، تترصّد الجزائر وتسعى إلى محاصرتها. أما وقد انتقل حفتر من دائرة التهديد بالكلام إلى دائرة الفعل، بعد أن تلقى ضوءا أخضر، أميركيا وفرنسيا وإماراتيا، فإن السكوت عليه بالنسبة لدوائر صنع القرار في الجزائر سيكون مكلفا في اتجاهين .. أولا، في قضية المسّ بهيبة الجزائر بوصفها قوة إقليمية كبرى في المنطقة، وثانيا في قضية استغلال معارضة الداخل هذه النقطة، باتجاه اتهام النظام بالفشل في حماية حدود الوطن.

انتقل حفتر من دائرة التهديد بالكلام إلى دائرة الفعل، بعد أن تلقى ضوءا أخضر، أميركيا وفرنسيا وإماراتيا، والسكوت عليه بالنسبة لدوائر صنع القرار في الجزائر سيكون مكلفا

غير أن الرد الجزائري القاسي هذا، والذي لا يمكن، بطبيعة الحال، أن يبقى في إطار الخطابات، بدليل أنه جاء من الحدود الليبية الجزائرية، حيث تتزايد وتيرة مناورات الجيش الجزائري، وتحشيداته الضخمة لمواجهة أي طارئ، جاء بعد حوالي أسبوع من إعلان مليشيات حفتر السيطرة على معبر إيسلي وغلقه، ما يعني أن الأمر كان يحتاج انتظار مخرجات مؤتمر برلين 2، قبل اتخاذ قرار نهائي بشأن الطريقة التي سوف يتم بها تأديب حفتر، أو على الأقل الطريقة التي يتم بها وضع حدٍّ لحركاته غير المحسوبة جيدا، بإيعاز من قوى أجنبية معروفة.

بالنسبة للجزائر، ليس حفتر هو المشكلة بحد ذاته، ولا يمكنه أن يكون مشكلةً أبدا، إنما القضية هي في القوى التي يأتمر بأوامرها، وقد قرّرت أن تجعل من حفتر ورقة ابتزازٍ واضحة، في ظل متغيرات جيوستراتيجية في غاية الأهمية، تهدف، أول ما تهدف، إلى محاصرة الجزائر الرافضة سياسة التطبيع من جميع الجهات وتطويقها كلية، خصوصا بعد فشل فرنسا في قيادة عمليات باراخان في منطقة الساحل والصحراء، واضطرارها إلى تسليم القيادة إلى الولايات المتحدة التي يبدو أنها قرّرت إنجاز ما فشلت فيه فرنسا طوال السنوات الماضية، وهي إبقاء الجزائر القوية في قوقعتها داخل الحدود، وعدم إعطائها قدرة المناورة خارج البلاد، وخصوصا في أفريقيا التي اعتبرتها الجزائر أخيرا أنها من ضمن مجالها الحيوي.

تغيرت المعادلات التي كانت تحكم علاقات حكام أبو ظبي بالجزائر، ولم تعد كما كانت عليه في زمن المخلوع بوتفليقة

إذن، ليس حفتر سوى بيدق صغير. ولأجل ذلك، انتظرت الجزائر أسبوعا لتطلق ردّها الصاعق هذا، حتى تضبط أدواتها في مواجهة من هم خلف حفتر، وليس في مواجهة حفتر. وهنا يجب التنبيه إلى أن هذه اللهجة الجزائرية الشديدة لم تأت فقط بعد مخرجات مؤتمر برلين، وإنما جاءت في أعقاب زيارة في غاية الأهمية للفريق السعيد شنقريحة إلى موسكو، والتي تمت خلالها مناقشة مختلف التحدّيات التي تواجه حليف روسيا الكبير في منطقة غرب المتوسط، ومعها تم الإمضاء على صفقات تسليح ضخمة تتجاوز حدود صواريخ إس 400 التي امتلكتها الجزائر منذ سنوات إلى أنواع متطوّرة من الرادارات بالغة الدقة، بالإضافة إلى غواصات وطائرات سوخوي 35 وسوخوي 57 الشبحية، مع إمكانية رفع موسكو يدها عن حليفها المحلي حفتر غرب ليبيا، لأن الأمر يتعلق بحليفٍ أكبر بكثير اسمه الجزائر.

أخطر من ذلك، باتت الجزائر تدرك أن اليد الإماراتية ليست بعيدة عما يجري في كل محيطها القريب، فقد تغيرت المعادلات التي كانت تحكم علاقات حكام أبو ظبي بالجزائر، ولم تعد كما كانت عليه في زمن المخلوع عبد العزيز بوتفليقة. لقد صارت الجزائر اليوم أقرب إلى تركيا منها إلى الامارات، وقد عبر عن ذلك الرئيس عبد المجيد تبون في أكثر من مناسبة، وهو ما أزعج كثيرا هذه الدولة التي أخذت أدوارا مقاولاتية أكثر من حجمها، غير أن ما ألّب أبو ظبي على الجزائر بشكل واضح، كان بكل تأكيد تصريحات الرئيس تبّون حول رفض الجزائر سياسة الهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل التي تنتهجها بعض الدول العربية، الأمر الذي اعتبرته الإمارات يعنيها مباشرة.

وعلى ما يبدو، ليست خطة الإمارات فقط تطويق الجزائر في حدودها، وإنما إدخال العامل الإسرائيلي عاملا رئيسا في عملية الحصار تلك، على الرغم من الممانعة الأميركية التي تدرك حساسية الموضوع، ذلك أن جلب الإسرائيلي إلى الحدود الغربية للجزائر، لا يكتمل من دون تحريك خليفة حفتر وإعطائه الضوء الأخضر لجلب إسرائيل إلى حدود الجزائر الشرقية الجنوبية، وهو الأمر الذي تحدثت عنه تقارير عديدة، وكان سببا مباشرا أيضا في طبيعة الغضب الجزائري، وردّه الموسوم بعباراتٍ مضبوطةٍ جيدا بأن الجزائر "لا ولن تقبل أي تهديد أو وعيد، من أي طرفٍ كان، كما أنها لن ترضخ لأية جهةٍ مهما كانت قوتها".

باتت الجزائر تدرك أن اليد الاماراتية ليست بعيدة عما يجري في كل محيطها القريب

بالنسبة للإمارات، كان حديث الرئيس تبّون عن "الهرولة" نحو التطبيع خطيئة أولى، أما خطيئة تبون الثانية، بحسب هذه الدولة، فكانت حديثه في قناة الجزيرة في 8 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، والذي أعاد فيه التذكير بأن طرابلس كانت خطّا أحمر جزائريا، وأن الجزائر لم تكن لتسمح بسقوط أول عاصمة مغاربية وأفريقية في أيدي المرتزقة، وأنها كانت ستتدخل، بطريقة أو بأخرى، لمنع ذلك، لأن المقصود، بكل وضوح، من المرتزقة هم مليشيات حفتر التي سلحتها الإمارات وموّلتها. وبالتالي، وجب أن تسمع الجزائر الرد الإماراتي الثاني في معبر إيسلي الحدودي. وبطبيعة الحال، إذا ما أخذنا في الاعتبار الخطيئة الثالثة التي هي التقارب فوق الحدود المسموح بها مع تركيا، سواء في الموضوع الليبي أو في غيره من أوجه التعاون الاقتصادي والعسكري، تكون قضية تحريك ورقة حفتر تحصيل حاصل.

إذن، ردّت الجزائر على "المعتوهين والمتهورين" بتعبير قيادة الجيش، وعلى الأطراف "المريضة والمتعطّشة للسلطة"، وتوعدّتها بردٍّ قاس وحاسم، ولكنها تردّت، في الوقت نفسه، على من صنع المعتوهين والمتهورين، وعلى من نفخ فيهم حتى اعتقدوا أنهم في مستوى مواجهة الجيش الجزائري، هذا الجيش الذي أحرز أخيرا قوة دستورية، بإمكانية التحرّك خارج حدود البلاد، كما صارت له أيضا شرعية القوة الإقليمية التي يحقّ لها أن تتحرّك جوا على الأقل في عمق الغرب الليبي، تماما كما امتلكت مصر شرعية التحرّك في شرقها.

133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية