حسن حنفي .. وداعا
لا أتذكّر بالضبط متى وفي أي مناسبةٍ التقيت أول مرّة فيلسوفنا الكبير، حسن حنفي، الذي رحل عن عالمنا يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، لكن المؤكّد أن لقاءاتي به راحت، منذ ذلك الحين، تتواصل بانتظام، إلى أن تحولت علاقة الزمالة إلى صداقة عميقة امتدّت أكثر من ثلاثة عقود. فبعد لقائي الأول به، جمعتنا معا مناسبات لا تحصى: ندوات ومؤتمرات داخل مصر وخارجها، مناقشات لرسائل الماجستير أو الدكتوراه في الجامعات المصرية، لقاءات اجتماعية وعائلية شبه منتظمة .. إلخ. ولأن معرفتي بأفكاره وكتاباته التي كانت قد بدأت تثير جدلا كثيرا في الأوساط الثقافية والسياسية، سبقت معرفتي الشخصية به، كان النقاش حول هذه الأفكار المدخل الطبيعي لعلاقةٍ راحت تتعمّق وتتشعّب، بعد أن أضيفت إليها أبعاد إنسانية واجتماعية لم تكن تتسم بها في البداية، فالرجل ينتمي إلى فئة محدودة جدا من أكاديميين ارتبطت أسماؤهم بمشروعات فكرية كبرى كرسوا لها جل حياتهم. يلفت النظر هنا أن مشروعه الفكري ولد في ذهنه في مرحلة مبكرة جدا، أظن أنها بدأت فور التحاقه بالدراسة في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، ثم راح الطالب المجتهد يواصل السير على الدرب الذي اختاره في صبرٍ وأناةٍ نادريْن، وظلّ يعمل على تجويده بإصرارٍ عجيبٍ حتى آخر رمق في حياته. ولا أظن أنني أتجاوز الحقيقية إن قلت إن حرصه البالغ على صقل مشروعه الفكري وتهيئة البيئة المناسبة لتعميقه كان الدافع الأساسي وراء قراره السفر إلى فرنسا، وعلى حسابه الخاص، فور حصوله على درجة الليسانس، على الرغم من أنه لم يكن ميسور الحال إطلاقًا، متحمّلا بشجاعة قسوة الحياة في فرنسا في بداية سنوات دراسته في جامعة السوربون، فقد أدرك حسن حنفي، ومنذ بداية تفتّح وعيه الفكري والسياسي، أن المعركة الحقيقية التي على العرب والمسلمين خوضها بلا هوادة هي، أولا وقبل كل شيء، فكريةٌ وحضاريةٌ بالأساس، وأن انتصارهم في هذه المعركة شرط ضروري لانتصارهم في كل المعارك الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. من هنا اعتقاده الجازم بالحاجة الماسّة لإعادة قراءة التراث العربي، استنادا إلى مناهج علمية صارمة، كي يتمكّن العرب والمسلمون من اللحاق بركب النهضة واستعادة أمجاد الماضي.
حمل المشروع الفكري لحسن حنفي عنوان "التراث والتجديد"، وهو ينقسم إلى خمسة محاور رئيسية: "من العقيدة إلى الثورة .. محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين"، وكتب فيه خمسة أجزاء، نشرت عام 1987. "من النقل إلى الإبداع، محاولة لإعادة بناء علم الحكمة"، وكتب فيه تسعة أجزاء نشرت عام 2002 . "من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه"، وكتب فيه جزءين نشرا عام 1994. "من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوّف"، وكتب فيه جزءا واحدا نشر عام 1996. "من النقل إلى العقل، محاولة لإعادة بناء العلوم النقدية" (علوم القرآن، علوم الحديث، علوم التفسير، علوم السيرة، علوم الفقه)، وكتب فيه خمسة أجزاء نشرت ما بين 2000 و2008. ولم يمتد العمر بحسن حنفي لإكمال مشروعه الفكري الذي كان يفترض أن يضم محاور أخرى، تشمل بحوثا في كيفية "إعادة بناء العلوم العقلية والعلوم الإنسانية"، وأخرى في "وصف بناء وتطور الحضارة الإسلامية"، وربما بحوثا أخرى، لكنه ظل حتى آخر رمق في حياته يواصل البحث والكتابة، حتى عن طريق الإملاء، حين عجزت أصابعه عن الإمساك بالقلم. وكان آخر ما وصل إليّ منه كتابي "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم"، ويقع في أكثر من ألف صفحة، و"ذكريات" (ضمّنه ملامح وإضاءات من وحي سيرته الذاتية)، وكلاهما نشرا عام 2018.
تعرّض حسن حنفي في حياته لسهام نقد عديدة، خصوصا من غير المتخصصين الذين لم يتمكّنوا من استيعاب أفكاره وهضمها
يقول صديقي الراحل في "ذكريات" إن مشروعه الفكري "موجه لثلاثة مستويات. أولها: المستوى العلمي للمتخصصين، وهو ما سماه القدماء خاصة الخاصة، والذي لا يمكن عرضه في الصحافة وأجهزة الإعلام التي تبغي الإثارة، المدح أو القدح، وقد يصل الأمر إلى التكفير والاغتيال، ولا يناقش إلا في الجامعات والمراكز والمعاهد المتخصصة. وثانيها: المستوى الفلسفي والثقافي، وهو للفلاسفة والمثقفين، من أجل نشر الوعي الفلسفي وبيان أثر المشروع في الثقافة. وثالثها: المستوى السياسي الشعبي، وهو للعامّة ولتحويل المشروع إلى ثقافة شعبية سياسية، فلا يجوز الخلط بين هذه المستويات الثلاثة، والحفاظ على كل مستوى لأهله".
لست هنا بصدد تقييم المشروع الفكري لحسن حنفي، وهو مشروعٌ قابلٌ، على أي حال، للاتفاق أو الاختلاف معه كليا أو جزئيا، شأن كل الأطروحات الفكرية، وربما لا أكون، بحكم تخصّصي، مؤهلا للتصدّي لتلك المهمة، لكني أودّ أن أقرّر، بحكم العلاقة الشخصية التي ربطتني بصاحب هذا المشروع الكبير، أن حسن حنفي كان صادقا مع نفسه إلى أبعد حد، ومتسقا معها كل الاتساق، وكان يتسم بسعة صدر واستعداد تام للحوار مع كل من يختلف معه، شريطة أن يكون الاختلاف مبنيّا على علم وعن بيّنة، ويستند إلى منهج واضح، فعلى الرغم من اقتناعه التام بصحّة أفكاره واستنتاجاته الخاصة، إلا أنه لم يكن قط متعصّبا لآرائه التي يعتبرها اجتهادا أو مجرّد وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ، لكني أظنه كان مجتهدا كبيرا، عن علم وعن ثقافة واطلاع، ومن ثم يعد، في تقديري، من كبار حملة مشاعل الفكر والتنوير في عالمنا العربي والإسلامي، على اختلاف ميولهم وتوجهاتهم، وبالتالي هو امتداد طبيعي لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وزكي نجيب محمود ومحمد عمارة وغيرهم.
كان حنفي يعتقد جازما بالحاجة الماسّة لإعادة قراءة التراث العربي، استنادا إلى مناهج علمية صارمة
تعرّض حسن حنفي في حياته لسهام نقد عديدة، خصوصا من غير المتخصصين الذين لم يتمكّنوا من استيعاب أفكاره وهضمها، وصلت إلى حد الاتهام بالتجديف أو الزندقة والتخريف، أو حتى بالكفر والضلال والخروج عن صحيح الإسلام، لكنه خاض معاركه الفكرية بشجاعةٍ، تنم عن احترامه نفسه والآخرين. ما يؤلم حقا تعرّضه أيضا للتجريح بعد وفاته من مواقع يدّعي أصحابها أنهم يدافعون عن الإسلام، وكأنهم يحتكرون وحدهم حقّ الحديث باسم الإسلام والغيرة عليه. ولحسن الحظ، فقد رثى كل من شيخ الأزهر، أحمد الطيب، ومفتي مصر، شوقي علام، الفقيد الكبير، عبر التغريد على حسابيهما على "تويتر"، الأمر الذي ساهم في حصار هذا التوجّه المعيب، وحصر نطاق الخلاف على الجانب الفكري، وعدم امتداده إلى الجانب العقيدي والإيماني.
.. كان حسن حنفي يتمتع بباقة خصال رائعة يندر أن تجتمع في شخص واحد، في مقدمتها الشهامة، ونقاء السريرة، وحب الناس، والوفاء لأصدقائه وأسرته. جمعتنا أخيرا ندوة كبيرة عقدتها في عمّان جميعة النهضة العربية. وفي وقتٍ كانت الأمراض قد بدأت تحاصره، وتجبره على التنقل عبر كرسي متحرّك وبمساعدة مرافق. أذكر أنه تساءل، حين كنا نتجاذب أطراف الحديث في المساء، عن ملابسات واقعة احتجاز كتبي في مطار القاهرة عند عودتي من الخارج في آخر سفرية. وحين أخبرتُه بالتفاصيل، وعلم أن هذه الكتب أصبحت في حوزتي، بعد السماح لي باستعادتها عند سفري من القاهرة هذه المرّة، وأنني أنوي إهداءها إلى أصدقائي في الأردن أو إلى من يريد، بسبب خضوعي للتفتيش الدقيق عند العودة ومصادرة جميع الكتب التي أحملها معي في كل مرة، عرض عليّ فورا، وأصرّ على أن يحملها في حقيبته عند العودة، وقد كان. المذهل أنه لم ينتظر إلى أن أمرّ عليه في منزله لاستعادتها، وفوجئت به، وهو المريض القعيد، يُحضرها بنفسه إلى مكتبي في الجامعة. كادت الدموع تفرّ من عيني تأثّرا بهذا الموقف النبيل.
يؤلم حقا تعرّض حنفي للتجريح بعد وفاته من مواقع يدّعي أصحابها أنهم يدافعون عن الإسلام
كان حسن حنفي شديد الوفاء أيضا لأصدقائه وتلاميذه، خصوصا حين يواجهون محنة، أو يتعرّضون لمواقف صعبة. هاتفني ذات يوم، وسألني إن كنت أعرف نصر حامد أبو زيد، فقلت: نعم بالطبع. كان ذلك بعد فترة وجيزة من صدور حكم بتفريق أبو زيد عن زوجته واضطراره للإقامة خارج مصر، بسبب تهديدات كان يتلقاها من بعض المتطرّفين. وحين أخبرني أن نصر موجود حاليا في للقاهرة، وأنه سيلتقيه غدا في أحد الفنادق المغمورة في منطقة العجوزة، وسألني إن كنت أود أن أصحبه في هذه الزيارة، رحّبت على الفور. كان لقاء من نوع فريد، ولم يكن مؤثرا فقط، بحكم ما انطوى عليه من شحنةٍ عاطفيةٍ مكثفة، لكنه كان ممتعا فكريا ونموذجا لما يمكن أن تكون عليه حميمية اللقاء بين الأستاذ وتلميذه في ظروف مماثلة، خصوصا حين يصبح كلاهما، الأستاذ وتلميذه، مفكريْن من طراز رفيع.
بقي أن أشير هنا إلى أن حسن حنفي هو من قدّمني إلى عملاق آخر من عمالقة الفكر المصري والعربي، أنور عبد الملك، صاحب كتاب "ريح الشرق"، وأول من نبه إلى أهمية التوجه شرقا، وتنبأ بالصعود العظيم للصين. وحين تعمّقت العلاقة بيننا بدأنا نلتقي نحن الثلاثة، ساعات طويلة، في كل مرة يحضر فيها عبد الملك إلى القاهرة، خصوصا في أعياد رأس السنة الميلادية. ولذا كان حزننا على رحيله قبل سنوات صادقا وعميقا.
تلقيّت، قبل حوالي شهر، مكالمة مطوّلة من صديقي حسن حنفي، لم أكن أعلم أنها الأخيرة. حكى لي فيها عن شراسة الأمراض التي راحت تهاجمه بالجملة. كان صوته قويا، على الرغم من الإحساس بالألم، ولم ينس أن يحدّثني إنه ما زال يملي انطباعاته، وشكا لي من صحف ومواقع إخبارية تهمل مقالاته، أو تحذف منها بعض الفقرات. المثير أنه حدّثني في المكالمة عن كتاب يعكف على إعداده، ووعدته أن اتصل به مرة كل أسبوع على الأقل للاطمئنان عليه. بعد أسبوع أو عشرة أيام اتصلت به هاتفيا فردّ علي المرافق، أخبرني أنه نقل منذ أيام إلى المستشفى. وعندما تحدثت مع زوجته الفاضلة، أخبرتني أنه أدخل غرفة العناية الفائقة وأنه لا يستطيع أن يردّ على الهاتف، وغير مسموح بزيارته.
بعد صلاة الجنازة في جامع الفتح القريب من جامعة القاهرة، تم نقل الجثمان الطاهر إلى مقر الجامعة، وهناك تمكّن نفر قليل من أصدقائه ومحبيه، بالإضافة إلى زوجته واثنين من أولاده، من إلقاء نظرة أخيرة على نعش مفكرنا الكبير، قبل أن تتوجّه به عربة الإسعاف إلى مثواه الأخير.
رحم الله الجميع وأحسن خاتمتنا.