حسابات اليوم التالي للحرب
كشفت حركة حماس، قبل أيام، تسلّلَ عناصر تابعة للمخابرات الفلسطينية في رام الله إلى قطاع غزّة، وأعلنتْ إفشالها ما سمّته مخطّطاً كانت هذه العناصر تعتزم تنفيذه، بتنسيق مع قوات الاحتلال. وبذلك تستجدّ الأسئلة بشأن النيّات والأوّليات والاستراتيجيات التي تقود القوى الإقليمية والدولية المعنية باستخلاص عائدات الحرب وإعادة توظيفها بما يخدم مصالحها.
تعيد واقعة التسلّل إلى الواجهة خيارَ عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قطاع غزّة، الذي سبق أن طرحته الإدارة الأميركية في بداية الحرب، وهو ما يعكس، في ما يبدو، تبدُّلاً في موقف حكومة بنيامين نتنياهو التي كانت تعارض هذه العودة، ما يعني قبولها بعودة محسوبة للسلطة إلى القطاع، من دون أن يعني ذلك تخلّيها عن السيطرة الأمنية عليه. ويأتي هذا التبدّل بعد أن فشل مخطّطها باستدراج عشائر غزّة وعائلاتها ووُجهائها نحو التعاون والتنسيق معها في إدخال المساعدات الإنسانية وتوزيعها.
في السياق ذاته، تبدو الواقعة كأنها اختبارٌ دالٌّ على الجاهزية الأمنية والاستخبارية والسياسية للمقاومة الفلسطينية، في ظلّ حالة الفوضى والدمار الهائل الذي يشهده القطاع بعد ستة أشهر من العدوان الإسرائيلي. وهو ما يعيد طرح السؤال الذي يتردّد في كواليس السياسة الدولية: إلى أي مدى نجحت قوات الاحتلال في ضرب البنية التحتية والعسكرية للمقاومة بعد أشهر متواصلة من القصف والتقتيل والتطهير العرقي والإبادة الجماعية؟ يقول المنطق إنّ نجاح المقاومة في رصد عناصر المخابرات الفلسطينية بعد دخولها القطاع يعني أنّها لا تزال تحتفظ بالحد الأدنى، على الأقل، من قدراتها الأمنية والقتالية.
لقد نجحت المقاومة، حتى اللحظة، في إبقاء سؤال ''اليوم التالي للحرب'' مفتوحاً يشغل الحكومة الإسرائيلية والقوى الإقليمية والدولية المعنية، فغياب خطّة إسرائيلية واضحة حول هذا اليوم يجعل ''النصر'' على المقاومة أمراً بعيد المنال. كذلك، لا تبدو الدول العربية المعنية متحمّسةً لدخول قوات عربية إلى قطاع غزّة، لأنّ خياراً كهذاً سيحوّلها إلى قوّات محتلّة ومتعاونة مع الاحتلال. يُضاف إلى ذلك ما يبدو قناعةً بدأت تتشكّل في أكثر من عاصمة عربية باستحالة اجتثاث المقاومة مع تجذّر حاضنتها الشعبية والاجتماعية، ليس فقط في غزّة، بل في عموم فلسطين، بعد أن نجحت في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث في العالم.
على الصعيد الدولي، وعلى الرغم من محادثات إسرائيلية أميركية سابقة بشأن تشكيل قوات دولية لحفظ السلام في غزّة تتولى تنظيم الأمن والإشراف على إدخال المساعدات وتوزيعها على السكان، إلا أنّ استمرار المعارك في غزّة، وتضاربَ ما يعلنه الجيش الإسرائيلي مع الوقائع على الأرض، وتخبّط حكومة نتنياهو في إدارة التناقضات الداخلية الموازية للحرب، مع استمرار المظاهرات المطالبة بعقد صفقة تبادل مع "حماس" تُعيد الرهائن المحتجزين، ذلك كلّه يجعل إدخال قوات دولية إلى غزّة مغامرةً غير محسوبة العواقب، سيما أنّ معظم ما صدر عن مراكز البحث والتفكير الغربية لا يقدّم صورة متكاملة في هذا الصدد، بسبب الحسابات الإقليمية والدولية المعقّدة لليوم التالي للحرب. فالمجتمع الإسرائيلي، على اختلاف مكوّناته، يُدرك أنّ الحرب الحالية ستحدّد مستقبل إسرائيل لعقود مقبلة، وما يحدُث في غزّة لا يختلف عن ''حرب الاستقلال'' (1948). فقد تداعت سرديات إسرائيلية كانت راسخة قبل 7 أكتوبر، والاستماتةُ التي تواجه بها المقاومة توحّشَ آلة القتل الإسرائيلية تخلط الأوراق في الإقليم والعواصم العربية والغربية.
إضافة إلى ذلك، لا ينفصل اليوم التالي للحرب عن حزمة ملفّات حسّاسة تؤرّق إسرائيل والولايات المتّحدة، وفي مقدّمها الملف النووي الإيراني، ذلك أنّ إخفاق إسرائيل في القضاء على المقاومة سيزيح، بالضرورة، استهدافَ النووي الإيراني عن صدارة أولوياتها، على الأقل في المنظور المتوسط، وهو ما يمنح طهران هامشاً أوسع، ليس فقط في الذهاب بعيداً في طموحاتها النووية، بل أيضاً في إدارة نفوذها المذهبي والسياسي في الإقليم بحساباتٍ جديدة، لأنّ الإخفاق الإسرائيلي سيشكّل ضربة موجعة لمحور التطبيع العربي الإسرائيلي التي تعتبره خطوةً نحو إقامة تحالفٍ عربيٍ إسرائيليٍ ضدّها.