حزب العرجاني في مصر بين هيمنة الدولة وقيود السياسة
جدل كبير شهدته مصر أخيراً بشأن إنشاء حزب جديد تتبنّاه الدولة، وبدا في واجهته إبراهيم العرجاني، أحد الشخصيات التي حظيت بظهور متكرّر يتوازى مع نفوذ كبير في الفترة الماضية بإنشاء اتحاد القبائل العربية. وهناك عشرات من علامات الاستفهام بشأن توسّع نفوذ العرجاني السياسي وإمبراطوريته الاقتصادية، التي بدأت في سيناء بإشراف شركاته على النقل من غزّة إلى معبر رفح، مروراً باستثماراته في الإمارات وليبيا، إضافةً إلى تعيينه عضواً في الجهاز الوطني لتنمية سيناء. وظهرت ضمن قيادات هذا الحزب الجديد شخصيات شبه حكومية، ووزراء سابقون، ومسؤولون مقربّون من النظام الحالي، وأبرزهم رئيس مجلس النواب السابق علي عبد العال، بالإضافة إلى علي الدين هلال، أحد رجال لجنة سياسات حسني مبارك، وعضو أمانة الحوار الوطني الذي دعا إليه عبد الفتاح السيسي.
ويثور النقاش حول جدوى هذا الحزب ووظيفته بطرح عدة أسئلة، أهمها: هل سيحلّ محلّ "مستقبل وطن"، الحزب الذي أسّسته أجهزة الدولة في 2014 ليؤدّي دوراً يشبه دور الحزب الوطني، الذي حلّ بقرار من القضاء بعيد ثورة 25 يناير (2011)؟ وهل تتخلّى الدولة عن حزبها الأثير في الانتخابات البرلمانية القادمة كما فعلت مع حزب المصريين الأحرار، الذي كان يحظى بالأغلبية، ليحلّ محله حزب مستقبل وطن؟ وهل ما يحدث يمثّل تصوّراً جديداً للحياة السياسية ترعاه أجهزة الدولة، ليضمّ هذا الحزب نخبةً جديدةً بديلاً من قيادات "مستقبل وطن"، الذي تقف وراءه أجهزة معيّنة؟ وهل لهذا الظهور علاقة باستبعاد بعض أركان النظام من مواقعهم، كما حدث مع رئيس المخابرات العامة السابق عبّاس كامل، وما تلاه من تغييرات في الشركة المتحدة للإعلام (شبه الرسمية)، التي تسيطر على القنوات الفضائية والمواقع الصحافية كافة؟
هل تحتاج مصر لأحزاب جديدة تضاف إلى ما يزيد على مائة حزب أسّست أغلبها أجهزةُ الدولة في أعقاب بيان 3 يوليو/ تموز؟
كلها أسئلة مهمّة، وتطرحها باستمرار النخبة السياسية المصرية عقب هذا الظهور للحزب الوليد، الذي يحظى بإمكانيات مالية وسياسية ضخمة، بالإضافة إلى دعم وتأييد أجهزة الدولة الرسمية. ولم يخلُ الجراب من الحديث عن ظهور أحزاب أخرى بمبرر أنها تمثّل تجديداً واضافةً للساحة السياسية (ولو على المستوى الشكلي) بظهور حزب الوعي، الذي يضمّ أعضاءَ من كتلة الحوار التي أُعلِن إنشاؤها في أعقاب الدعوة إلى الحوار الوطني، بهدف إقامة توازن شكلي مع الحركة المدنية المعارضة، التي برزت مخاوف رسمية وقتها من مقاطعتها هذا الحوار.
والسؤال الرئيس هنا، هل تحتاج مصر لأحزاب جديدة تضاف إلى ما يزيد على مائة حزب أسّست أغلبها أجهزةُ الدولة في أعقاب بيان 3 يوليو/ تموز (2013) الشهير، وتضمّ قيادات عسكرية سابقة وبرلمانيين ورجال أعمال، أم تحتاج إلى تفعيل الحياة الحزبية بشكل حقيقي لتعبّر بشكل جادٍّ عن تعدّدية مفتوحة للتمثيل السياسي في البرلمان، وتستطيع التواصل مع الجماهير، وليست معزولةً عنها، كما يحدث الآن؟ إذ تزداد أشكال الحصار السياسي، والقانوني، وتُمنع الأحزاب من ممارسة الأنشطة السياسية وسط الجماهير، كما حدث أخيراً برفض طلب الحركة تنظيم مظاهرة تضامناً مع الشعبَين الفلسطيني واللبناني، بالإضافة إلى القبض على قيادات سابقة في الحركة، وسياسيين معارضين، وممارسة عشرات من التضييقات الإدارية والمالية على قياداتها، ومنها المنع من السفر؟ والظاهرة الأغرب أن يأتي هذا الحزب من خلفية قبلية، خاصّة أن العرجاني يأتي في مقدّمة قياداته الأساسية، فهل يمثّل رديفاً لاتحاد القبائل الذي واجه ظهوره انتقادات كبيرة، بالتناقض مع الدستور الذي يحظر الأحزاب المنشأة على أساس قبلي أو طائفي؟
وتقول بعض قيادات الحزب إنه سيمثّل تحالف 30 يونيو/ حزيران (كما يشير رئيس الهيئة المصرية للاستعلامات ضياء رشوان)، فهل ما زالت صيغة هذا التحالف موجودة من الأصل، أم أنها أُنهيت عملياً في عام 2014 وما بعده، بإقصاء القوى السياسية التي كانت جزءاً منه؟... الناظر للحياة الحزبية يراها استنساخاً من الشكل السياسي الذي بدأت به هذه التجربة في عام 1977، بإنشاء الحزبية، التي سمح بها نظام أنور السادات، ثم تحوّلها أحزاباً، ولم تتعدَّ الأطار الشكلي الذي أطلق عليه الباحثون "نموذج التعددية المقيّدة المدارة من أعلى"، بل إن المكاسب التي حظيت بها أحزاب المعارضة طوال عقدي الثمانينيّات والتسعينيّات، وحتى ثورة 25 يناير، الذي بلغت منحناها التصاعدي بنشوء حركة كفاية، وظهور الصحف المستقلّة، والدور الفاعل لصحف المعارضة، ذهبت أدراج الرياح بعد 2014، وحوصرت هذه الأحزاب في مقارّها، وسجنت النخبة النشيطة التي حاولت الارتباط بالشارع.
الحياة الحزبية في مصر استنساخ من شكل سياسي بدأ في 1977، بإنشاء الحزبية، ثمّ تحوّلها أحزاباً، ولم تتعدَّ الأطار الشكلي
بل لا تخفي الدولة نياتها بإجبار الأحزاب الحالية المتشابهة في الخطّ السياسي على دمج نفسها من خلال تعديل على قانون الأحزاب بمبرّر تفعيل دورها، والمراد هو تهميشها، خاصّة أحزاب المعارضة التي تختلف مع سياسات النظام. ولم تعان أحزاب المعارضة من التضييقات (كما يحدث الآن) من خلال تدخّلات أجهزة الدولة في دعم مقرّبين منها في المواقع القيادية لهذه الأحزاب، والمثال هنا ما حدث مع حزب الدستور بقرار لجنة الأحزاب السياسية بخلو منصب رئيس الحزب، وصدور أحكام قضائية على السياسي أحمد الطنطاوي وأفراد حملته بعد عزمه على إنشاء حزب تحت التأسيس باسم "تيّار الأمل"، بالإضافة إلى إغلاق المسارات السياسية كافّة أمام هذه الأحزاب، والسعي إلى السيطرة على هذه المساحات بتكوينات انتهازية ترعاها أجهزة الدولة، سواء في الجامعات أو النقابات العمّالية والمهنية، وحتى مؤسّسات العملين الأهلي والحقوقي. ولم تفعّل أجهزة الدولة أيّ مبادرات لخلق مساحة للإصلاح السياسي، حتى مع إطلاق الحوار الوطني، الذي تستخدمه الدولة لتمرير ما تريد من تشريعات وقوانين، وآخرها قانون الإجراءات الجنائية. وهو ما يتوازى مع الإصرار على انتهاك حقوق الإنسان والحبس الاحتياطي المطوّل، الذي يطاول قيادات هذه الأحزاب.
في النهاية، يبدو أن هذا الحزب لن يكون سوى نسخة من الأحزاب الحكومية على غرار التجارب السابقة، بدءاً من حزب مصر، ثمّ حزبي الوطني ومستقبل وطن، ولن يتخطى دوره استيعاب النخب الحكومية التي ترضى عنها الدولة، ولن يكون له أيّ تأثير إيجابي في الحياة السياسية، خاصّة في ضوء استمرار ترسانة قوانين الأحزاب والانتخابات وتقييد التجمّع السلمي وهيمنة أجهزة الدولة على المسارات كافّة.