حرب غير متماثلة لكنْ متكافئة
رغم الخسائر الهائلة التي تكبّدها الفلسطينيون في غزّة، والمجازر المتوالية التي حصدت أرواح عشرات الآلاف، لم تستطع إسرائيل والقوى المساندة لها، من الإقليم ومن خارجه، كسر إرادة أهل غزّة أو نزع روح المقاومة منهم، إلى حدّ أنّ من ييأس منهم ويظنّ أن لا منجاة له من بطش إسرائيل، لا يبحث عن مهربٍ أو يقبل الخروج من غزّة، بل يتمنّى أن يُستشهد وهو يدافع عنها. هذا هو حال المدنيين العزّل الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً. أما المقاتلون من مجاهدي فصائل المقاومة، فهم يزدادون قوّةً وصلابةً كلّما زاد بطش العدو وتوحّشه. وكلّما سقط من المقاتلين شهيدٌ أخذ مكانه آخرُ يتمنّى الشهادة.
ورغم تقدّم الآلة العسكرية والتقنيات الحديثة التي يحوزها الجيش الإسرائيلي، ينفّذ مقاتلو فصائل المقاومة عملياتٍ عسكريةً نوعيةً تُذهل العدوّ، وتجعل حلفاءَه وداعميه في حيرة من أمرهم، فبأدوات بدائية وتقنيات بسيطة يُوجّه المجاهدون الفلسطينيون ضربات موجعة تستنزف القوات الإسرائيلية بشرياً ونفسياً. ما يجري في غزّة منذ ستة أشهر نموذج مثاليّ للحرب المتكافئة لكن المتماثلة، وهو نمط يجمع تفاوت القدرات العسكرية والإمكانات المادية المباشرة بين الطرفين إلى التكافؤ والندّية في العمليات الميدانية وتبادل المكاسب والخسائر سجالاً، وبشكل يتناسب مع حجم وقوّة كلّ طرف.
الدلالة العميقة في هذا النموذج الجدير بالتأمل أنّ صراعات الحقّ والباطل، والحروب المدفوعة بوازع عقدي، لا يمكن حسمها نهائياً مهما كان التفاوت في القدرات والإمكانات المادية. بل يتجاوز الوضع في غزّة المتعارف عليه من رسوخ الأفكار الجهادية والعقيدة القتالية ذات المرجعية الدينية التي قد تدفع أحياناً إلى الكمون أو التراجع والكرّ والفرّ.
ما يدعو إلى التساؤل ليس أداء المقاتلين ولا بسالة المدنيين الفلسطينيين، وإنما ذلك العنت الإسرائيلي غير المفهوم، الذي كثيراً ما يتجسّد في اندفاع أحمق نحو كمائن ومآزق سياسية وأخلاقية، لا عسكرية فقط. ولا يقتصر هذا الغباء على التوجّه العام نحو استمرار الحرب، الذي يتبنّاه بنيامين نتنياهو لمصالح شخصية وخشية حسابٍ عسيرٍ ينتظره، فالواضح أنّ الغطرسة التي تعمي الأبصار متفشية بين صفوف القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية. إذ لا منطق مفهوماً في تكرار وقوع القوات الإسرائيلية في كمائن عناصر المقاومة بصورة متكرّرة ومتطابقة.
وفضلاً عن تلك الهزائم الصغيرة المتتالية التي يُنزلها المقاتلون الفلسطينيون بإسرائيل، لا تزال تل أبيب تحلم بإمكانية القضاء على المقاومة أو تصفية معظم عناصرها المقاتلة، وفقاً للتكتيكات المتبعة ذاتها التي ثبت فشلها مراراً وتكراراً طوال ستة أشهر. صحيح أنّ جانباً من الإصرار على المضي في العمليات العسكرية البرّية، يستهدف تهجير الفلسطينيين وإزاحتهم خارج نطاق القطاع كلّياً، لكنّ الفكر الحاكم لهذا التوجه يتناسى أنّ المسألة ليست في المسافة الجغرافية قرباً أو بعداً عن المستوطنات، وأنّها لا ترتبط بالتواصل البرّي المباشر مع المدن الإسرائيلية. كما أنّ عدم تمكن تل أبيب من تحقيق أيّ نجاح لعملياتها العسكرية منذ أكثر من ستة أشهر، كفيل بتنبيه أيّ قيادة رشيدة إلى ضرورة وقف القتال وإنهاء العمليات للحدّ من الخسائر ولحفظ ماء الوجه. ولكن يبدو أنّ نتنياهو ليس الوحيد الذي اختار الهروب إلى الأمام، فمقابل اختيار الفلسطينيين الصمود والاستبسال بشكل نهائي وبلا رجعة، اختار ساسة تل أبيب وعسكريوها المضي إلى النهاية في الخيار صفر، أي إمّا انتصار أو اندحار. وهو في الواقع اختيارٌ غير منطقي لغياب أيّ إشارة أو بوادر للانتصار، وتوالي مؤشرات الهزيمة واستمرار نزيف الخسائر على كلّ المستويات. كما لو كانت المعادلة أنّ الفلسطينيين يتمنّون الاستشهاد، فيما يسعى الإسرائيليون حثيثاً إلى الانتحار.