حرب غامضة في سورية لمصلحة مَنْ؟

13 اغسطس 2024
+ الخط -

هل هي مُجرَّد المصادفة التي تجعل حلول شهر أغسطس/ آب موعداً قائماً على السخونة المُركّبة في دير الزور السورية؟ إذ شهدت منطقة الجزيرة السورية في نهايات هذا الشهر من العام الماضي مواجهات عسكرية دامية بين قوات العشائر العسكرية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في أعقاب اعتقال "الإدارة الذاتية" رئيسَ مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل (أبو خولة)، ثم أفصح امتداد المعارك واشتدادها حينذاك عن أنّ دوافع المواجهات العسكرية أكثر عمقاً وتراكماً من مسألة اعتقال مسؤول عسكري محسوب على العشائر العربية، بل سرعان ما حضرت جملةٌ من المظالم التي لم تعد تحتمل الكتمان، ثم أخذت المواجهات العسكرية طابعاً من التحدّي بين من يدّعون أنّهم أصحاب الأرض، والسلطة التي تعدّ ذاتها صاحبةَ المشروعيةِ في ضبط الأمن والإشراف على إدارة المنطقة، مُستندةً في ذلك إلى ما تحوزه من قوّةٍ عسكرية وفّرتها لها الجهة الراعية والداعمة (الولايات المتّحدة) وكاد القتال أن يتَّخذ طابعاً عرقياً، إضافة إلى كونه دفاعاً عن الحقوق والمطالب، لولا انعطاف قيادة الحراك العشائري المتمثّلة بإبراهيم الهفل، الذي تصدَّر زعامةَ ذاك الحراك، وهو أحد مشايخ قبيلة العكيدات، كبرى القبائل في المنطقة، باتجاه نظام الأسد، الأمر الذي أضعف الحراك العشائري، وأفقده كثيراً من التعاطف، وربّما أحاطه بشكوكٍ كثيرة ذهبت إلى اتّهام نظام الأسد وإيران بالوقوف خلف تلك المواجهات.

ظهور فاعلين تدعمهم إيران والنظام يدفع جملة المطالب المشروعة لأهالي دير الزور إلى الخلف

في السابع من شهر أغسطس/ آب الجاري، وبعد مرور عام على المواجهات الأولى، يتجدّد القتال في دير الزور بين أطراف المواجهة ذاتهم، إذ باغتت ما تسمَّى "قوات العشائر" قوات "قسد" في بلدة ذيبان، وهي مسقط رأس الهفل وبيت المشيخة لقبيلة العكيدات، واستولت على حواجز ومُعدّات عديدة، وامتدّت المعاركُ إلى بلداتٍ أخرى، أبرزها البوليل في الضفّة الغربية لنهر الفرات، ما دفع "قسد" إلى الردّ العنيف. ولاستدراك الموقف، قصفت قوات النظام بعض البلدات (جديدة وبكارة والبوليل) مخلّفةً مجزرةً بين السكّان المدنيين راح ضحيتها نحو 12 مدنياً، فضلاً عن الإصابات. ومن جديد أيضاً، يكشف مسرح المعارك هُويَّاتٍ جديدةً للأطراف المشاركة في القتال، ولعلّ أبرزَ تلك الهُويَّات قائد فصيل أسود العكيدات، المدعو هاشم مسعود السطّام، المعروف بقربه من مليشيات إيران، التي تحظى بنفوذٍ وبحضورٍ قوي في مدينتي البوكمال والميادين، الأمر الذي يُخرِج المواجهات من صعيد النضال من أجل الحقوق التي تغتصبها سلطات "قسد"، إلى صعيد الحرب بالوكالة، ولأسباب ربّما ليست ذات صلة بواقع وحياة أهالي دير الزور.
لا أحدَ يستطيع أن يتجاهلَ جملة الحقوق والمطالب التي ينادي بها السكّان المحلّيون، كما لا أحدَ بمقدوره تجاهل الواقع المعيشي المأساوي الذي تتداخل فيه عوامل الفساد الإداري بالنزوع السلطوي نحو الإقصاء والاستفراد بالقرار، وتهميش أصحاب الأرض، والتعاطي مع معاناة المواطنين بمزيد من التجاهل تارةً، والتسويف والالتفاف تارةً أخرى، إذ ما تزال جميع تلك العوامل والأسباب قائمةً، وهي وحدها كافيةٌ لأن تكون مُبرّراً لثورة مستمرّة في وجه سلطة الأمر الواقع، ولكنّ سيرورة المعارك، وظهور فاعلين آخرين تدعمهم إيران وقوات النظام، يفتحان آفاقاً أخرى للتقييم والتأويل، بل ويدفعان بجملة المطالب المشروعة لأهالي دير الزور، بمن فيهم العشائر، إلى الخلف، ويرسمان شعاراً جديداً للمواجهة يمكن أن يكون امتداداً لصراع المليشيات الإيرانية مع القوات الأميركية الموجودة في تلك المنطقة، خاصّة أنّ قوات العشائر بدأت آخر هجوم لها منطلقةً من الميادين والبوكمال، معقل مليشيات إيران، وبهذا بات يقرأ كثيرون ما يجري في دير الزور على أنّه استثمار إيراني لحراك العشائر العسكري بغيةَ توظيفه في استهداف المصالح الأميركية، كما يمكن قراءته أيضاً على أنه نزوع لإيران ونظام الأسد معاً نحو الرغبة في التمدد باتجاه الضفة الشرقية لنهر الفرات والعمل على ضرب قوات "قسد" والتحالف من الداخل.
لقد حاولت إيران استغلال مظلومية أبناء العشائر وانتفاضتهم بوجه قوات سوريا الديمقراطية، لتحويل هذه المنطقة، التي هي جزء من ميادين الصراع بين إيران وأميركا، ساحةً لتصفية الحسابات والزجّ ببعض المحسوبين عليها من أبناء تلك العشائر في معارك خدمةً لأجنداتها التوسعية في المنطقة، إذ أرادت طهران من خلال هذا التصعيد توجيه ثلاث رسائل لواشنطن هي:
إن كانت أميركا تعوّل على حليفتها الوحيدة في المنطقة (قسد) في حماية مصالحها ومناطق نفوذها، فإنّ إيران مخترقةٌ لهذا التنظيم من خلال قياداته القنديليين، وقادرة من خلال وكلائها المحلّيين ومليشياتها على تهديد التواجد الأميركي، واجتياح منطقة شرق الفرات وطرد "قسد" منها.
أما الرسالة الثانية لواشنطن: إن كان تعويلكم واعتمادكم على عشائر المنطقة، فإنّ إيران قادرةٌ أيضاً على تحريك المتواجدين منهم في مناطق سيطرتها غرب الفرات ضدّ الوجود الأميركي بذريعة طرد "قسد"، واللعب على الرابط القبلي والعشائري، إلا أنّ هذا الرهان فشل نتيجة وعي أبناء العشائر الذين أدركوا أبعاد اللعبة الإيرانية وأجندتها الخاصة، ومحاولة إشعال الفتنة بين أبناء القبائل، بل وحتّى أبناء القبيلة الواحدة.

حاولت إيران استغلال انتفاضة أبناء العشائر في وجه "قسد" لزج بعضهم في معارك تخدم أجنداتها التوسّعية

يتمثل الرهان الإيراني الثالث بالعزف على وتر العواطف الدينية، بأنّنا جميعاً مسلمون سنّة وشيعة، وعلينا أن نتجاوز ما حصل بيننا من احتراب طائفي من أجل التصدّي للهيمنة الأميركية الغربية الصهيونية على المنطقة، وإشعال الحرائق فيها (بعيداً عن إيران)، وتأليب المسلمين كلّهم في العالم لضرب المصالح الأميركية، إلا أنّه ليس من السهولة نسيان ما فعلته إيران في سورية ولبنان واليمن والعراق، ولا أن تسامح شعوب المنطقة بهذه البساطة وتمحو سجلّ نظام الملالي الإجرامي الطائفي.
من ما سبق، يمكننا التساؤل بصوت عالٍ، هل باتت معاناة المواطنين في دير الزور ومجمل مطالبهم وحقوقهم المغتصبة ورقةً بيد إيران تناكف بها واشنطن؟ ثمّ، ألا يوجب هذا التوجّه الإيراني على واشنطن أن تعمل بحزم على تحييد مليشيات إيران، ومقاومة نفوذها، بقوة وحزم في تلك المناطق بدلاً من تلك المناكفات، التي تجري على حساب أمن وحقوق وسلامة المواطنين المدنيين؟

عكيدي
عبد الجبار عكيدي
عقيد سابق منشقّ من الجيش السوري، قائد المجلس العسكري للجيش السوري الحر في محافظة حلب.