حرب الفلافل
سخرت منه الجموع، عندما رأوه لا يحمل من حطام الوطن غير حبّة فلافل، بينما كانوا هم يحملون مفاتيح بيوتهم. لكنه احتمل السخرية بثباتٍ يُحسد عليه، واكتفى بالردّ: "ستعرفون غداً أن الوطن حبّة فلافل، أيضاً".
حدث ذلك في التغريبة الفلسطينية، عندما طُرد المهجَّرون من أرضهم، وراحوا يقطعون المسافات الطويلة، لا يحملون من متاع الوطن غير ما أسعفهم به الوقت الفاصل بين الرصاصة والرصاصة. وكان أوّل ما فكّروا به، بالطبع، مفتاح البيت؛ لأنه يمثّل بالنسبة إليهم الوطن المصغّر، حيث المأوى، والمستقرّ. أمّا هو، فكان ينظر إلى أبعد من ذلك؛ لأنه كان يعرف أن فلسطين أكبر من بيتٍ وحقلٍ وجواز سفر.
كان يدرك أنه سيدافع يوماً، ليس عن الأرض فقط، بل عن حبّة الفلافل التي كانت نتاج قرون من تجارب الأجداد والأحفاد. في جوفها تاريخٌ ممتدٌّ من عرق الأسلاف، وفي استدارتها مواسم تدور مع كرة الأرض، وحول زيتها المغليّ تدفّأت أجيال، وعلى أريج رائحتها تعطّر عمّال وفلاحون وطلاب، وباحثون عن "أمل"، وفي حشودِها عُقدت صفقات بيع وشراء وزواج.
كان يعرف تماماً قيمة ما يحمل، ويُراوده حسٌّ بالثراء، وهو ما جعله أشدّ حذراً من غيره وسط الجموع، كان يتلفّت بقلق، في كلّ الاتجاهات، قابضاً على حبّة الفلافل كمن يقبض على جمرة؛ لأنه يعلم جيداً أنها غدت "عملةً صعبة" لا يسمح للمطرودين بحملها وتهريبها خارج الديار. والغريب أنّ ما يخشاه حدث بالفعل، فقد ألقى الجنود القبض عليه متلبّساً بحبّة الفلافل. ولأنّهم لم يكونوا مستعدّين لإخضاعه لمحاكمةٍ تطيل أمد بقائه في الوطن الذي أمسى محرّماً عليه، فقد اكتفوا بمصادرة حبّة الفلافل، وطرده خارج الحدود.
آنذاك بكى، طويلاً، أزيد مما بكى حملة المفاتيح، وشعر أنه الآن، وحسب، فقد وطنه. لكن ما حدث بعد ذلك فاقم دهشة اللاجئين، عندما انخرط بعضُهم في صفوف المقاومة لاستعادة الأرض، فقد انخرط هو الآخر معهم، ولكن ليعلن جهاراً أنّ هدفه استعادة حبّة الفلافل المغتصبة.
والحال أنّ غرابة هذا اللاجئ لم تتبدّد إلّا عندما عرف الجميع، بعد ذلك، وعقب مضيّ عشرات الأعوام على الاحتلال الصهيوني، أنّه كان على حقٍّ عندما دافع عن حبّة الفلافل، فقد برهنت الأيام أن تلك الحبّة، وغيرها من رموز الهوية، أصبحت هدفاً للمحتلّ بعدما اطمأن إلى سيطرته على الأرض.
أما آخر زعم للمحتلّ عن "الفلافل"، فورد قبل أسابيع، عندما ظهر وزير السياحة الإسرائيلي وهو يحمل شطيرة فلافل بالطحينية، مدّعياً أن الفلافل "منتج إسرائيلي". وللمفارقة، جاء هذا الاحتفاء الصهيوني بالفلافل متزامناً مع "يوم الاستقلال الإسرائيلي" الذي يقابله تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وهي مفارقةٌ ذات دلالة واضحة، وتعني أن تهجير الفلسطيني لم يكن من الأرض فقط، بل من حبّة الفلافل، أيضاً، ومن الثوب المطرّز، الذي كان هو الآخر محلّ سطوٍ ومزاعم صهيونية بأنه جزء من التراث الإسرائيلي.
باختصار، تريد إسرائيل طرد الفلسطينيّ من كلّ شيء، من تاريخه ومأكله وشرابه وملبسه، من جدران البيوت وحصى الطريق، من عُشبه وشجره، ومن مسخّنه ومقلوبته، ولا ترضى بالتقاسم أو الاكتفاء بحصّة واحدة من دمه مثلما طلب منها محمود درويش ذات قصيدة.
هو صراع سرديات، وروايات، ولغات، وصراع على حبّة فلافل، أيضاً، لأنّ إسرائيل تدرك أنّ تجريد الفلسطيني منها يعني أنها كسبت معركة أخرى في حرب الهويات، وهذا ما تفعله آلتها الإعلامية المدجّجة بالكذب المصدّق عند الغرب وبعض العرب أكثر من الصدق المكذّب عند الغرب، وبعض العرب أيضاً، ممّن باتوا يتبنّون الرواية الصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم.
وأمّا صاحب النبوءة، ذاك، الذي سخر منه الجميع ذات تغريبةٍ بعيدة، فلم يعد يتبنّى "حرب الفلافل" فقط، بل صار له هدف إضافيّ، أن يضيف إلى عجينة الفلافل التي امتزجت بدمائه ونضاله "لحم مغتصبه" كما تنبّأ درويش ذات قصيدة أيضاً.