حرب الدرونز والوجود الأميركي في العراق
بدأت الطائرات المسيرة (الدرونز)، التي باتت تستخدمها بشكل متزايد المليشيات العراقية المطالبة برحيل القوات الأميركية من العراق، تشكل عقدةً أمنية وعسكرية، تحاول كل من الحكومة العراقية والولايات المتحدة إيجاد وسائل ناجعة للتعامل معها. ومع بدء حملة المطالبة بإخراج هذه القوات في بداية العام 2020، على خلفية قصف طائرات أميركية موكب القائد الإيراني، قاسم سليماني، وزعيم حزب الله العراقي، أبو مهدي المهندس، فإن فصائل مسلحة في العراق نفذت نحو 300 هجوم على المصالح الأميركية هناك، كالقواعد الجوية ومحيط السفارة الأميركية ومطارات بغداد وأربيل وغيرها، مستخدمة وسائل عدة، شملت الصواريخ والعبوات الناسفة، ثم الطائرات المسيّرة التي باتت تمثل مصدر قلق وخوف حقيقي من التعرّض للأهداف بدقة أكبر، انتقاماً لمقتل القائدين، وضغطاً على القوات الأميركية لمغادرة العراق. حرب الدرونز التي أجبرت القيادات الأميركية، الميدانية والمركزية، على إبداء قلقها وتغيير أساليبها في التعامل مع المليشيا العراقية، ووصف اعتماد هذه المليشيات على هذا الأسلوب بأنه "يغير قواعد اللعبة"، تطرح جملة من التساؤلات والاحتمالات لمآلات زيادة وتيرة التعرّض للأهداف الأميركية، وصعوبة الكشف عن حركة الهجوم بها وتوقيتاته، كما يصعب أيضاً التكهن بالأجيال التي ستستخدمها هذه المليشيا لزيادة الضغط على واشنطن.
تقول المصادر الأميركية إن طائرات "الدرونز" المستخدمة في قصف قواعدها إيرانية الصنع، وذات استخدام عسكري، وتشكل خطراً فعلياً أكبر من الصواريخ والهاونات، بسبب دقتها والقدرة على التحكم بمسارها وأهدافها، ثم صعوبة كشفها بالرادارات في أحايين كثيرة، لكن واشنطن، في الوقت نفسه، لم تلق مسؤولية ذلك على إيران بشكل مباشر.
أمام الولايات المتحدة طريق واحد لمعالجة أوضاعها في العراق، إنجاح المفاوضات النووية مع إيران التي تتهمها واشنطن بأنها وراء بعض المليشيا العراقية
تتحدّث الولايات المتحدة عن قدرات عسكرية دفاعية وهجومية وتكنولوجية هائلة في قواعدها في العراق، وعن حقها "في الرد"، لكن من يخطط ويدرب ويجهز بعض المليشيا العراقية يعرف أن برنامجه في موضوع "الدرونز" يعتمد على تصور عسكري، تمت تجربته في مناطق أخرى من الإقليم، وأن هذا التصور يعني أن الزيادة في استخدام هذه الطائرات المسيرة وبأجيال عدة تمثل البديل عن حرب العصابات التي تستخدم ضد الجيوش النظامية الكبيرة في العدد والقدرات التعبوية والتسليحية. وهنا لابد للجانب الأميركي، وبدرجات أقل البريطاني، أن يضعا نصب أعينهما تجربة اليمن، وحجم التأثير في المعادلة العسكرية بين قوات "التحالف العربي" بقيادة السعودية، بكل ما تملكه من ترسانة أسلحة جوية وبرّية وبحرية بالغة التأثير، وجماعة صغيرة ومحدودة التسلح، الحوثيين، والتي قلبت تقديرات الحرب، من حيث التخطيط العسكري لها والزمن المتوقع لإنجاز النصر فيها، إلى مصدر قلق وتخوف، ليس فقط للمملكة وحلفائها، بل أيضا للمنظومة الاقتصادية العالم، لاعتماد الحوثيين على "حرب عصابات الدرونز"؛ حيث باتت طائراته المسيرة تجوب سماء مدن وأهداف كثيرة تبعد مئات الكيلومترات عن صنعاء، لتصيب أهدافها بدقة كبيرة، ولتكلف الطرف المستهدف ملايين الدولارات، قيمة الصواريخ المعترضة لهذه الطائرات التي لا تزيد كلفتها على مئات من الدولارات.
أمام الولايات المتحدة طريق واحد فيما يبدو لمعالجة أوضاعها في العراق وهذا الخطر الجديد، هو إنجاح المفاوضات النووية مع إيران التي تتهمها واشنطن بأنها وراء بعض المليشيا العراقية، سواء من حيث التسليح والتجهيز أو من حيث البناء العقائدي للحرب. ولعل ما يتسرب من مفاوضات الجانبين على هامش المفاوضات النووية يشير إلى مطالبة الجانب الأميركي بتحييد إيران في موضوع المليشيا العراقية في مقابل إغراءات اقتصادية و"استراتيجية" جديدة في المنطقة، بضمنها الملف الإسرائيلي – الفلسطيني.
العراق، بحسب مراقبين، مقبل على فترة عصيبة، قد تجعل الأمور تفلت من عقالها، وتخلط الأوراق بشكلٍ يدفع فيه الشعب العراقي تضحياتٍ كبيرة تفوق ما قدّمه خلال 18 عاماً
وضعت حرب "الدرونز" الحكومة العراقية أيضاً في موقفٍ جديد لا تحسد عليه تجاه الوضع الداخلي، وكذلك تجاه دول العالم التي تمتلك قوات في العراق لمكافحة بقايا تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسورية، فرئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، الذي وصف المليشيا التي تقصف المصالح والأهداف الأميركية بأنها "خارجة عن القانون" لن يستطيع إيقاف حركة هذه المليشيا. وقد أثبتت التجارب المتلاحقة، وجديدها قضية قائد عمليات "الحشد الشعبي" في الأنبار، قاسم مصلح، عدم امتلاك الرجل القوة والقدرة على هذا الأمر، لأسباب عديدة. لكن الكاظمي يبقى أملاً بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، ذاك أنه يمثل، بالنسبة لهذه المليشيات، عنصراً موالياً للغرب، ومتربصاً بحكم العراق، وتقليص أدوار هذه المليشيات وبعض الدول الأقليمية في بلاده. هذه المليشيا المتهمة بارتكاب أعمال قتل خارج نطاق القانون، وقتل المتظاهرين السلميين في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، إضافة إلى تورّط قادتهم بملفات فساد وتغييب قسري لعراقيين كثيرين.
العراق، بحسب مراقبين، مقبل على فترة عصيبة، قد تجعل الأمور تفلت من عقالها، وتخلط الأوراق بشكلٍ يدفع فيه الشعب العراقي تضحياتٍ كبيرة تفوق ما قدّمه خلال الـ 18 عاماً الماضية، إلا إذا نجحت الإدارة الأميركية في كبح جماح من يتدخل في الشأن العراقي، وبوسائل دبلوماسية، تجعل من موضوع إقحام المليشيا الموالية لها في الشأن الأمني والعسكري السيادي للعراق أمراً محظوراً، مع التركيز على إنجاح تجربة الانتخابات العراقية المقبلة، ومنع حالات التزوير والتهديد واستخدام المال السياسي لكسب أصوات الناخبين، وهي مسألة مشكوك في القدرة على تحقيقها إلى درجة كبيرة.
المخرج الحقيقي لكل هذه الأزمات والفوضى المرتبطة بالاستخدام المباح للأسلحة، بكل أنواعها خارج نطاق سلطة الدولة، يكمن في حكومة عراقية قوية يحترمها الشعب، ثم يدعمها المجتمعان، الإقليمي والدولي، لاجتثاث الخارجين عن القانون تحت أي عنوانٍ كان، وإعادة هيبة الدولة وقدرتها على تطوير أمنها، اقتصادها، نظم الحياة في مجتمعها، وعلاقاتها مع الآخرين.