حرب الإسناد بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل
كيف سيؤثّر الهجوم الإيراني الصاروخي، المباشر وغير المسبوق، على إسرائيل في حرب الإسناد التي بدأها حزب الله على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، دعماً للحرب التي تخوضها حركة حماس في قطاع غزّة؟ سؤال يطرح نفسه بشدّة حالياً، بعد الهجوم الإيراني المباشر الأوّل من نوعه.
يجب الاعتراف أنّ حرب الإسناد التي يخوضها حزب الله كانت قد وصلت، قبل الهجوم، إلى مفترق صعب، تشابكت فيه ظروف داخلية وعسكرية وإقليمية، فحزب الله بعد مرور نصف سنة على الحرب افسرائيلية في غزّة، ومع عدم بروز أفق يبشّر بانتهاء هذه الحرب في وقت قريب، ولا حتى التوصّل إلى هدنةٍ إنسانيةٍ لتبادل الأسرى. هذا كلّه، جعله في وضع لا يُحسَد عليه. وبعد الهجوم الإيراني، ورغم النجاح الذي حقّقته إيران، يبدو أنّ المنطقة كلّها أصبحت على كفّ عفريت. وفي لبنان خصوصاً، حيث يوجد أهم ذراع عسكري لإيران على بعد مسافة كيلومترات قليلة من الحدود مع إسرائيل، يبدو الخطر أضعافاً مضاعفة عما كان عليه خلال ستة أشهر مضت.
وقبل الهجوم الإيراني على إسرائيل، واجهت حرب الإسناد التي يخوضها حزب الله أخيراً عدة تحدّيات. فعلى صعيد الداخل اللبناني، ازدادت حدّة الأصوات المعارضة للحرب التي شنّها حزب الله و"ورّط" لبنان في معركة، برأي فريق من اللبنانيين "ليست معركته"، الأمر الذي فتح مجدّداً بازار المزايدات بشأن استئثار الحزب بقرار الحرب والسلم وتعريض لبنان كلّه للخطر، وعودة الأصوات المطالبة بنزع سلاح الحزب. كما برزت في الفترة الأخيرة حالةٌ من التململ وسط أهالي الجنوب اللبناني، وغالبيّتهم من مؤيّدي حزب الله ويشكّلون قاعدته وخزّانه الشعبي، حيال مآلات المواجهات الدائرة على أراضيهم التي يدفعون ثمنها من أرواحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم، وحدهم من دون سائر اللبنانيين الذين يبدون يعيشون في عالم آخر لا يمتّ بصلةٍ إلى ما يجري في الجنوب، ما يُحدِث حالة "شيزوفرينيا"، اعتاد اللبنانيون عليها، وهي العيش على حافَة خطر حرب شاملة، وفي الوقت نفسه، تستمرّ الحياة اليومية كما لو أنّ الحرب بعيدة ولن تحدُث.
استطاع حزب الله أن يحوّل 80 ألفاً من سكان المستوطنات في الجليل إلى لاجئين، وإلى مشكلة وقنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه المسؤولين الإسرائيليين في كلّ ساعة وكلّ وقت
تُضاف إلى هذا كلّه حوادث متفرقة أثارت كوابيس الحرب الأهلية بعد مقتل مسؤول التنسيق لحزب القوات اللبنانية، أكبر الأحزاب المسيحية المعارضة لحزب الله، في حادثة سرقة وقتل غامضة ومشبوهة، رافقتها حادثة قتل صرّافٍ لبناني اسمه مدرج على لائحة العقوبات الأميركية لأنّه يتعامل مع حزب الله. وبحسب التقارير اللبنانية، يحوّل أموالاً إلى حركة حماس في غزّة، ما أثار عاصفة من تبادل الاتهامات بين حزب الله وخصومه السياسيين، وتصاعدت حدّة الكلام والتهديدات بين الجانبين.
على الصعيد العسكري، وتطوّر الحرب في غزّة، ودخول القتال الإسرائيلي في مرحلة حرب الاقتحامات والتوغّلات البرّية في مخيمات اللاجئين في وسط القطاع، مع التلويح الدائم بعملية عسكرية في رفح، وعدم التوصل إلى اتفاق صفقة تبادل للأسرى تؤدّي إلى وقف لإطلاق النار، لا بدّ أن يطبّق على الجبهة اللبنانية، ما قد يتيح المجال أمام عودة الوساطة الأميركية للتوصل إلى اتفاق يقضي بانسحاب حزب الله مسافة عشرة كيلومترات داخل الحدود، وتفكيك بناه التحتيّة العسكرية، مقابل الاتفاق على ترسيم الحدود البرّية اللبنانية الإسرائيلية، في ضوء هذا الوضع المعقّد وحالة عدم اليقين، تبدو حرب الإسناد التي يخوضها حزب الله مع إسرائيل أمام مفترقٍ صعب، فبعد ستة أشهر على حرب غزّة، تبدّلت المعادلات التي تحكّمت في حرب الإسناد وتغيّرت أهدافها أكثر فأكثر. ما يجري اليوم هو عملية تدمير متبادلة بين إسرائيل وحزب الله، مع أخذ إسرائيل أكثر من مرّة زمام مبادرة التصعيد، سواء من خلال توسيع رقعة المواجهات نحو منطقة بعلبك البعيدة أكثر من مائة كلم عن الحدود، أو من خلال الاغتيالات في مراكز سكنيّة مأهولة، أو التدمير المنهجي للمنازل والبساتين والحقول، والقضاء على المواسم الزراعية ومعها أرزاق الجنوبيين. صحيحٌ أنّ الحزب استطاع أن يحوّل 80 ألفاً من سكان المستوطنات في الجليل إلى لاجئين، وإلى مشكلة وقنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه المسؤولين الإسرائيليين في كلّ ساعة وكلّ وقت، لكن بموازاة ذلك، أصبح الثمن الذي يدفعه، ومن المحتمل أن يدفعه، أهل الجنوب باهظاً جداً، ولا قدرة لهم على تحمّله طويلاً.
بعد ستة أشهر على حرب حزب الله إسناد غزّة، من حقّ أهالي الجنوب اللبناني أن يعرفوا مصيرهم وما ينتظرهم في الآتي من الأيام
والآن، تبدو الجبهة اللبنانية الإسرائيلية أكثر الجبهات تعرّضاً للانفجار من أيّ وقت مضى، بسبب التطوّرات الأخيرة التي خلّفها الهجوم الإيراني. بالتأكيد، هناك أهمية كبيرة لعدم استخدام إيران لحزب الله في ردّها العسكري على إسرائيل، وهو يكشف توجّه إيران إلى عدم زجّ الحزب في المواجهة وتدفيعه الثمن الباهظ. من ناحية أخرى ما جرى أخيراً قد يدفع إسرائيل إلى الردّ في لبنان في اتجاهيْن متعارضيْن. اتجاه يسعى إلى توريط حزب الله في مواجهة واسعة بهدف استغلال الفرصة لتوجيه ضربة عسكرية قاسيّة إليه، تؤدّي إلى تدميرٍ غيرِ مسبوقٍ وإصاباتٍ هائلة في لبنان خصوصاً، والجبهة الداخلية الإسرائيلية. في المقابل، هناك توجّه محتمل معاكس تحاول من خلاله إسرائيل استغلال تفوّقها الدفاعي في الردّ على الهجوم الإيراني من أجل ممارسة ضغط على حزب الله للقبول بحلٍ دبلوماسي ومنع وقوع حرب واسعة النطاق قد تتحول إلى حرب إقليمية. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الهجوم الإيراني أعاد تكتّل دول كثيرة وراء إسرائيل، وفعّل الائتلاف الإقليمي الدفاعي، الذي أقامته الولايات المتحدة برئاستها وبمشاركة إسرائيل ودول عربية في المنطقة، للمرّة الأولى للردّ على إيران، وذلك كلّه دروس لا بدّ من أنّ حزب الله يأخذها في حساباته.
أخيراً، تحوّلت الهجمات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني إلى صورة عن عملية التدمير الإسرائيلية لغزّة. وبعد ستة أشهر على حرب الإسناد، من حقّ أهالي الجنوب أن يعرفوا مصيرهم وما ينتظرهم في الآتي من الأيام. هم في حاجةٍ على الأقل إلى أن يفهموا هل الإنجازات التي حقّقها الحزب في هذه الأشهر تستحقّ كلّ هذه التضحيات؟ وهل هناك من سيعوّضهم خسائرهم في ظلّ بلدٍ منهارٍ سياسياً وماليّاً، ومهدّد على الدوام بخطر نشوب حربٍ أهلية ؟ وهل من المحتمل أن يَزُجّهم الحزب دفاعاً عن إيران في حربٍ مدمّرةٍ أخرى؟