حرب أوكرانيا فرصة لتصحيح المعايير ولنظام اقتصادي أكثر عدالة
لستُ من العرّافين الذين يتنبأون المستقبل، ولكني أزعم إن يوم الخميس 24 فبراير/ شباط سيدخل التاريخ يوماً مفصلياً في تاريخ العالم، تؤرّخ به نهاية القطبية الأحادية للهيمنة الأميركية، وتؤرّخ به بداية زعزعة الدولار عن مركزيته عملة الاحتياط النقدي العالمية. وما لا يقلّ عن هذين التطورين أهميةً الفرصة التاريخية التي يتيحها هذا اليوم المفصلي لكلّ الدول المستضعفة في هذا العالم، والتي تعاني من غياب التزام الدول الكبرى والفاعلة في هذا العالم بمبادئ القانون الدولي وأحكامه، والتي إذا حدث ودعت إلى الالتزام به في سياق أو آخر فإنّها تفعل ذلك باستنسابيةٍ تفضح تبنّيها معايير مزدوجة ومشبعة بالنفاق والأكاذيب.
كان طلب الاتحاد الروسي تجنب اللجوء إلى القوة في منتهى البساطة والانسجام الكامل مع المنطق، منطق التاريخ والجغرافيا السياسية والتوازن الواقعي للقوى! فالروابط التاريخية والجوار الجغرافي بين روسيا وأوكرانيا أقوى من أن تسمح بانتقال أوكرانيا إلى معسكر معادٍ ومهدّد مباشر للأمن القومي الروسي. والتفوق العسكري الروسي يساند هذا المنطق، ويجعل نتيجة تحدّيه محسومة سلفاً. وقد ساند هذا المنطق اثنان، لعلّهما أهم صانعي الاستراتيجية الأميركية، جورج كينان وهنري كيسنجر.
كينان هو سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الاتحاد السوفييتي، ومهندس سياسة "الاحتواء" التي اتبعتها الولايات المتحدة بنجاح لافت تجاه المعسكر الشرقي في الحرب الباردة. ويعدّ أهم خبير مختص بالشؤون الروسية في الولايات المتحدة. يقول الصحافي توماس فريدمان إنّه في 2 مايو/ أيار من عام 1998 مباشرة بعد إبرام مجلس الشيوخ الأميركي قرار توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ليضم إليه دولاً من التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي بعد انهياره، توجّه إلى جورج كينان بالسؤال عن رأيه في السياسة التي يمثلها ذلك القرار، فأجابه كينان: "هذه السياسة هي بداية لحرب باردة جديدة، وسوف تدفع الروس بالتدريج إلى ردود فعل مضادّة معارضة، وستؤثر في سياستهم سلباً تجاه الغرب. إنّها من جانب الولايات المتحدة خطأ مأساوي لا مبرّر له على الإطلاق؛ إذ لم يكن ثمّة أي طرفٍ يشكّل تهديداً للولايات المتحدة. توسيع حلف الناتو بهذه الطريقة سوف يقلق سكينة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة في قبورهم! خلافاتنا إبّان الحرب الباردة كانت مع النظام الشيوعي السوفييتي، وليس مع الشعب الروسي الذي كان قد نجح للتو في أعظم ثورة غير دموية لإزالة النظام السوفييتي، وتحقيق قدر من الديمقراطية يفوق ما حققته البلدان التي تسعون إلى ضمّها إلى حلف الناتو بحجة حمايتها من روسيا! ما هذا إلّا خطأ مبين".
من شأن أي مسعى لجعل أوكرانيا موضوعاً للمواجهة بين الشرق والغرب أن يقضي على احتمالات التقارب بين روسيا والغرب
وفي تاريخ لاحق، علق مفكر استراتيجي أميركي آخر، هو هنري كيسنجر، على الموضوع ذاته بالقول: "لقد شهدت في حياتي أربع حروب، ابتدأها من أشعلوها بحماس، مستندين إلى دعم شعبي، لكنّنا في كلّ من هذه الحروب التي كان الشروع بها سهلاً نسبياً، كانت المعضلة في كيفية إنهائها بصورةٍ مُرضية. في حالة أوكرانيا، السؤال هو هل تنضم هذه الدولة إلى المعسكر الشرقي أم إلى المعسكر الغربي. جوابي أنّ حياة هذه الدولة وازدهارها متوقّفان على نجاحها في الامتناع عن أن تكون قاعدةً لعدوان أيّ من المعسكرين على الآخر، بل أن تكون جسر تفاهم بينهما. وعلى روسيا أن تقبل حياد أوكرانيا، وتمتنع عن محاولة ضمها أو تحويلها دولة تابعة لها، فهذا سيستفز بالضرورة ردود أفعال عدائية مضادّة من الولايات المتحدة وأوروبا. في المقابل، على الدول الغربية أن تعرف أنّه لا يمكن لروسيا أن تتعايش مع إقصاء أوكرانيا عنها، بصورة تتجاهل الروابط التاريخية التي تربط بين الدولتين، فتاريخ روسيا يبدأ مما عرف بروس كييف، وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا عدّة قرون، بعدما سبقتها عدة قرون من التداخل التاريخي بينهما، فقد دارت أهم المعارك من أجل حرية روسيا على أرض اوكرانيا ابتداء من معركة بولتافا عام 1709. كما أنّ الأسطول الروسي كان منذ سنوات عديدة قد اتخذ من سيفاستوبول في القرم قاعدة له بموجب عقد إيجار طويل الأمد. وقد تغنّى بالروابط الوشيجة بين البلدين وتاريخهما المشترك أدباء مرموقون من وزن ألكسندر سولنجستون وجوزيف برودسكي".
وخلص كيسنجر إلى القول إنّه لما كانت السياسة الخارجية هي فن تحديد الأولويات، وكانت مصلحة الأوكرانيين الأولوية الحاسمة، ينبغي الاعتراف أنّ أوكرانيا بلد ذو تاريخ معقد، فالجزء الغربي منها كان قد انضم إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1939، حين تقاسم ستالين وهتلر تلك المنطقة الجغرافية، بما فيها شبه جزيرة القرم التي كان 60% من سكانها شعباً روسياً. وكان سكان الجزء الشرقي من تلك المنطقة من الروس الأرثوذوكس، في حين كان سكان الجزء الغربي من الكاثوليك الذين يتكلمون اللغة الأوكرانية، وكان الحال بين جناحي البلاد متوازناً، فتؤدّي محاولة أي منهما السيطرة على الآخر إلى حربٍ أهلية. لذلك، من شأن أي مسعى لجعل أوكرانيا موضوعاً للمواجهة بين الشرق والغرب أن يقضي على احتمالات التقارب بين روسيا والغرب، أو بين روسيا وأوروبا. وبالتالي، سيمنع اندماج روسيا في نظام دولي قائم على التعاون.
الظروف العالمية المأساوية المعقّدة الراهنة فرصة استثنائية للدول العربية، سيما المنتجة للنفط والغاز، أن تقف إلى جانب الحق
وبالمعاني ذاتها، وفي تاريخ أحدث، علّق مفكرون آخرون، منهم أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، جون ميرشايمر ، وآخرون من الذين من المفروض أن يصغي إليهم صانعو القرار في واشنطن العاصمة. فلماذا هذا التجاهل والإصرار على التفكير الدموي من المؤسسة الأميركية الحاكمة؟ لا تفسير لهذه المأساة العبثية، إلّا ما كان حذّر منه الرئيس الأميركي الأسبق، أيزنهاور، وهو مصالح المجمع العسكري - الصناعي وأطماعه، أي الشركات الصانعة والمتاجرة بالسلاح!
ما يهمنا الآن هو مغزى هذه الأحداث العالمية وانعكاساتها علينا في الوطن العربي .. الوقوف إلى جانب الحق والمنطق يكون، في الغالب، مكلفاً ومتطلباً التضحيات البالغة، لكنّ الحظ الحسن هو هذه المرّة إلى جانب العرب لو أحسنوا وأخلصوا لما فيه مصلحتهم المتماهية مع مصلحة العالم والإنسانية، كون الظروف العالمية المأساوية المعقّدة الراهنة تنشئ فرصة استثنائية للدول العربية، سيما المنتجة للنفط والغاز، أن تقف إلى جانب الحق والمنطق الإنساني من دون تكاليف، بل على العكس تستطيع أن تجني، في الوقت نفسه، مكاسب مادية غير مسبوقة في حجمها، وذلك بأن تصرّ على الحياد في موضوع النزاع الروسي الأوكراني مع المتابعة الجدّية الحثيثة للمبادئ والأهداف التالية: رفض الممارسة الدولية لازدواجية المعايير والإصرار على تطبيق أحكام القانون الدولي على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ابتداء من الوقف الناجز للاستيطان والممارسات الإسرائيلية الدموية ضد الفلسطينيين تحت الاحتلال. متابعة المبادرة العربية للوساطة في النزاع الروسي الأوكراني. إدارة سياسة إنتاج وتصدير النفط والغاز العربي بصورة متناسقة بين دول الخليج العربية، بحيث تشكل رافعة مؤثرة لدعم الهدفين الأول والثاني. التنسيق مع الصين وروسيا والدول المحبة للسلام والازدهار العالمي لإنهاء حقبة مركزية الدولار كعملة الاحتياط العالمية، والعمل مع المجتمع الدولي لبناء نظام اقتصادي ونقدي جديد داعم للسلام، ويقضي على هيمنة المجمع العسكري - الصناعي وتجّار السلاح في الغرب والشرق.