حربُ مفاهيم ضحاياها مثقفون
مثقّفون عرب وأجانب وخليطٌ منهم سقطوا قتلى أو بإصاباتٍ بالغة جرّاء مواقفهم التي لا يمكن وصفها سوى بأنها غريبة وغير مُتسقة، إزاء عملية طوفان الأقصى والرد الشنيع الذي ترتكبه إسرائيل على المدنيين في غزة. وقد رسم هذا السقوط لشخصياتٍ ثقافيةٍ سلوكاً متوَقّعاً بحسب نتاجها ومنهجها وأثرها في الحياة الثقافية، وهو ليس الأول من نوعه أمام قضايا محورية في منطقتنا، إذ شهدت الثورة السورية مواقفَ لبعضٍ من تلك الشخصيات التي طالبت بقائمة من قواعد ومعايير يجب أن تتحلّى بها الثورة، من أجل الاعتراف بها وتبنّيها.
ضياع البوصلة وفقدان القدرة على تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية يتطلبان العودة إلى البداية. والأصل في نشوء الحكاية أن الاختلاف أو الاتفاق أو الانتقاد لحركةٍ أو ظاهرة أو مُخرَجٍ ما، لا يعطي الحقّ في أي حالٍ باجتزاءِ فترةٍ من التاريخ، وجعلها الحدث الرئيس من دون الأخذ بالمقدّمات التي أوصلت إليها، ولا يعني إخراجَ أي فعل من سياقه وإخضاعه لشروط التجربة المخبرية ليكون موائماً وموافقاً ومُكتسباً للشرعية، إذ ينافي ذلك الحتمية التاريخية المُنتِجة بالضرورة معطياتٍ وظواهر لا يمكن لأي فرد الوقوف في وجهها وتحديدها، فكما قال هيغل "تاريخ العالم ليس إلاَ تقدّم الوعي بالحرية". ويجعل هذا المنطق الكامن للتاريخ بالنسبة لهيغل، والذي يسير نحو تحقيق الحرية البشرية، من المقاومة نتيجة وصيرورة، لا يمكن لأحد إلغاؤها. وضمن هذا الإطار كانت الثورة ضد نظام الأسد.
طرح أي قضية من منظورٍ فلسفيٍ تاريخي واجبٌ أخلاقي، من أجل فهم خلفياتها ومسارها، وهو واجبٌ على النخبة الثقافية بالدرجة الأولى
هذا من حيث فلسفة التاريخ. أمَا من حيث الواقع، والفلسطيني تحديداً، فهناك شعبٌ بأكمله تم تهجيره من أرضه، ولدى كل عائلة فلسطينية شهيدٌ أو أكثر، كان فرداً منها، وصار جرّاء استهداف الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين، صورةً على الحائط. هناك واقع يقول إنَ حرب تشرين جاءت لتعويض نكسة عام 1967، وإنَ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وإن كان سببها المباشر حادثة دهس شاحنة إسرائيلية عمّالا فلسطينيين، فإن أحد أسبابها غير المباشرة عدم تقبل الاحتلال الإسرائيلي، وعسف ممارساته. كما أن أسباب الانتفاضة الثانية تعلقت بيقينٍ لدى الفلسطينيين عدم نية الجانب الإسرائيلي تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وعدم الامتثال لمُخرَجات اتفاقيات أوسلو وقتها وجمود عملية كامب ديفيد. ويقول هذا الواقع إنَ وجود المقاومة فعلٌ لازِم لوجود الاحتلال، وعدم حل القضية بشكلٍ جذريٍ وعادل.
في أعقاب نشرِ الدبلوماسي الأميركي، دينيس روس، والذي لعب دوراً محورياً في اتفاقية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، في 1995، مقالاً بعنوان "ماذا على إسرائيل أن تفعل" دعا فيه إلى قطع رأس حركة حماس وتدمير بنيتها التحتية العسكرية واحتلال غزّة مرة أخرى، طُرِح تساؤلٌ حول ماذا يمكن أن يحدُث لو تم إنهاءُ حركة حماس فعلياً. والإجابة ببساطة انطلاقُ مقاومةٍ جديدةٍ لا مفرّ. وفي الغالب، سيكون عمادُها الأطفال الذين خرجوا من هذه المجزرة أحياء، بعد أن فقدوا عوائلهم ومستقبلهم، وزادتهم الأحداث التي يشهدونها أعواماً فوق أعوامهم.
تأثر الرأي العام الغربي، في بداية عملية طوفان الأقصى، بسبب تقديم وسائل إعلامه العملية أنها الحدث الرئيس، وبعد أن جهد كثيرون من داعمي القضية الفلسطينية في العالم لتوضيح الصورة واستكمالها بما قبل الطوفان ومنذ النكبة، رأينا كيف تغيّر المزاج العالمي، ونرى يومياً التضامن الشعبي مع أبناء غزّة المكلومين. وقد قال وليد جنبلاط في 15 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وبعد رؤية الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى: "البعض ينسى القضية الأساس وينسى حلّ الدولتين".
كنَا نظنّ أنَ الأنظمة الاستبدادية تحكم الأفراد فقط، وها نحن نشهد كيف يحكم العالم نظامٌ يمثل أقصى درجات الاستبداد
إنَ طرح أي قضية من منظورٍ فلسفيٍ تاريخي واجبٌ أخلاقي، من أجل فهم خلفياتها ومسارها، وهو واجبٌ على النخبة الثقافية بالدرجة الأولى، إذ نرغب أحياناً بأن نجلي إنسانيتنا بأكثر الطرق تطرّفاً، فيدفعنا ذلك إلى القفز عن أمورٍ هي أكثر جذرية ورسوخا بإنسانيتها، وهذا ما حصل لدى بعضهم، عند وقوع الضحايا جرّاء عملية طوفان الأقصى، وتناسوا يومية واعتيادية سقوط الضحايا منذ عقود في فلسطين وسنوات في سورية.
بعد هذا السقوط المتكرّر لمثقفين، حتى ممن حملوا لواء الدفاع عن حقوق الإنسان، نرى موضوعية نقد أكبر ثلاثة فلاسفة للضمير، دوستويفكسي ونيتشه وفرويد، الذين جَمعهم احتقارُ الضمير انطلاقاً من مشكلاتٍ تمثلت في "ماذا لو كان الضمير يمثل عبئاً زائفاً، وأكثرُ من ذلك، ماذا إن قبلنا ما تمليه علينا التأثيرات الخارجية المستبدة والزائفة وأضفنا إليها صفة ذاتية، ما يؤدي إلى ضميرٍ يتشكل من التحيز الجاهل والمنع غير المدروس". يؤكد راسكولنيكوف، بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، موقفه من الضمير في مقالٍ جدلي، يزعم فيه أنَ للإنسان المتميز الحق، وليس حقاً رسمياً بالطبع، بل حقه الخاص، في السماح لضميره بتخطّي عقباتٍ معينة. ويقدّم صديقه رازوميخين اعتراضاً أخلاقياً شديداً قائلاً: "إنك في نهاية المطاف تسمح بإراقة الدماء من دون أن تشعر بالذنب".
كنَا نظنّ أنَ الأنظمة الاستبدادية تحكم الأفراد فقط، وها نحن نشهد كيف يحكم العالم نظامٌ يمثل أقصى درجات الاستبداد، تعجزُ فيه دولٌ كثيرة عن اتخاذ قرارها في الاعتراض أو في تمثيل الضمير، مُعطيةً لنفسها السماح بتخطي عقباتٍ كثيرة.