حربٌ على الضفة الغربية أيضاً
مع حرب الإبادة الجارية على قطاع غزّة، تدور حربٌ أخرى على الضفة الغربية المحتلَّة. وإذا كانت عملية طوفان الأقصى هي التي أشعلت تلك الحرب، فإنَّ الحرب على الضفة الغربية جارية، بعملياتِ مقاومةٍ، وبدونها؛ ذلك للنظرة الاحتلالية المتعلِّقة بالضفة، وللمخطَّطات المُبَيَّتة، والمستمرّة تجاهها.
وتتضح معالمُ تلك النظرة من خلال المواقف المُعلَنة، منها، مثلًا، الإصرارُ على استمرار التوسُّع الاستيطاني، واعتبار الاستيطان أولوية استراتيجية وحيوية لدولة الاحتلال، ورفْض كلِّ الضغوط الأُمَمية، والمواقف الدولية، ومنها الموقف الأميركي، المُطالِب بوقف الاستيطان؛ لأنه غير شرعي، وبوصفه يقضي على فرص حلِّ الدولتين.
وينتج عن هذه النظرة الراسخة منْحُ المستوطنين هامشًا واسعًا من الاعتداءات الوحشية والإرهابية التي تطاول حياةَ الفلسطينيين العزَّل من السلاح، وممتلكاتهم، كبيوتهم ومزارعهم، ومتاجرهم، كما شهدت بلدة قصرة، جنوبي نابلس، مثلاً، إذ بعدَ أنْ قتلَ المستوطنون أربعة فلسطينيين، من البلدة، شنّوا هجومًا آخر على موكب تشييع جنازاتهم؛ فقتلوا فلسطينيِّيْنِ آخَريْنِ؛ أبًا (63 عاماً) ونجله (26 عاماً)، وذلك كله بحماية جيش الاحتلال. وقد دعت هذه الانفلاتة الدموية الاحتلالية غير المسبوقة المفوَّض الأُممي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إلى التحذير بأنّ الوضع خرج عن السيطرة في الضفة الغربية، وليس هناك أيُّ محاسبة على الانتهاكات الإسرائيلية.
أفرجت دولة الاحتلال عن وثائق تُثبت تعمُّد قادتها، إبّان أحداث النكبة، 1948، ارتكاب مجازر لحمل الفلسطينيين على الخروج من فلسطين
ومن دلائل خطيرة على استهداف الاحتلال الضفة الغربية تصميمُ حكومته على ضمِّها، وفرْض سيادة الاحتلال عليها، سواء بالأقوال، أو بالأفعال. ويتفرَّع من ذلك إصرار دولة الاحتلال على الاحتفاظ بمناطق C، وهي تشغل قرابة 60% من مساحة الضفة الغربية، وتنطوي على موارد حيوية لقيام أي دولة فلسطينية قابلة للحياة، بل تحتوي مقوِّمات حياة الفلسطينيين، العادية، أقامت دولة فلسطينية أم لم تقم.
وتنبع كلُّ تلك المواقفُ الاحتلالية من اعتبار الضفة الغربية "أرضَ إسرائيل"، لا أرضًا محتلَّة، أو حتى أراضي مُتنازَعًا عليها، وتَصَوُّر وجود الفلسطينيين فيها، (مجرَّدَ وجودهم) يتناقض مع إقرار (وتنفيذ) هذه الفكرة؛ المتصلة بمزاعم دينية توراتية. ولذلك درَج قادة الاحتلال على إعلان رغبتهم في ترحيل الفلسطينيين. وينطبق هذا على قطاع غزة، لكنّ الأولوية كانت هنا في الضفة الغربية، وكان هذا واضحًا قبل الحرب الوحشية على القطاع، وإنْ لم يكن ترحيلًا كاملًا فليكن تقليلًا دائمًا من السكَّان الفلسطينيين الأصليين.
لم تعد هذه الحقيقة موضع جدل، أو تشكيك، بعد أن أفرجت دولة الاحتلال عن وثائق تُثبت تعمُّد قادتها، إبّان أحداث النكبة، 1948، ارتكاب مجازر لحمل الفلسطينيين على الخروج من فلسطين. وتحتوي هذه الوثائق التي كشفتها حكومة الاحتلال، رسميًّا، على تقارير عديدة تبيِّن "أنَّ التنظيمات الإسرائيلية العسكرية التي احتلَّت المناطق المخصَّصة للفلسطينيين، بحسب قرار التقسيم، نفَّذت الكثير من العمليات التي تعتبر "جرائم حرب"، حسب القانون الدولي، "لطرد مئات ألوف الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، وأنهم لم يهربوا بسبب الخوف فقط".
وبعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزّة عام 1967، اتَّخذت أشكالًا جديدة من العقوبات الهادفة إلى طرد الفلسطينيين، ومن الدراسات الإسرائيلية الحديثة كتاب آفي راز "العروس والمهر: إسرائيل والأردن والفلسطينيون في أعقاب حرب يونيو 1967"، الذي يفيد بأنَّ هدَفَ تلك العقوبات تمثّل في دفْعِ اللاجئين الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، وبقيَّة السكَّان أيضًا، إذا أمكن. وكانت عمليات الطرد من الضفة الغربية أكثر تطرُّفًا بكثير، ولجأت إسرائيل إلى وسائل ملتوية؛ لمنع عودة المطرودين، في انتهاك مباشر لأوامر مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة. وأوضح رئيس وزراء دولة الاحتلال، ليفي إشكول، (كما ذكَّر بذلك المنظِّر السياسي، وأستاذ اللسانيَّات، نعوم تشومسكي، في مقالة له سابقة بعنوان: " The Assault on Gaza")، بعد ذلك، أنه لا يمكن السماح لأولئك المطرودين بالعودة؛ لأنه "لا يمكننا زيادة عدد السكان العرب في إسرائيل"؛ في إشارة واضحة إلى الأراضي المحتلة (حديثًا)، تعتبرها إسرائيل بالفعل جزءًا منها.
تعمل دولة الاحتلال على منْعِ انفجارٍ أكبر للأوضاع الأمنية في الضفة الغربية؛ حتى لا تضطر إلى تشتيت قوَّاتها، مع احتمالات توسُّع المواجهات في شمال فلسطين، جنوبي لبنان
وتتّضح هذه السياسة الضائقةُ ذرعًا بالفلسطينيين أكثر ما تتضح في القدس، وفي الخليل، وفي الأغوار. وتتسع الشواهد عليها في سائر مناطق الضفة الغربية بمواصلة قضْم الأراضي، أو التهامها، وبمواصلة التنغيص على حياة الفلسطينيين، وإغلاق آفاق العيش أمامهم، ويتّضح هذا في أكثر ما يتضح في جيل الشباب، حيث ارتفاع نسبة البِطالة، وتدنّي الدخل؛ بما لا يسمح لأكثرهم ببناء حيواتهم الخاصة، مِن أسرة، ومسكن، وضروريات العيش.
وبهذا، لا يصبح أمام الشباب، بالذات، إلا الهجرة، أو التأقلم مع القهر اليومي، واليأس المستقبلي، أو المقاومة؛ على تفوُّق جيش الاحتلال المادي، الكبير؛ ما يعني توفير فرصة لمجرمي الحرب في دولة الاحتلال للإفراط في استخدام القوة، سواء أكان ثمَّة تهديدٌ لحياة جنوده، أم لا، كما يحدُث، على نحو شبه يومي، في مدن الضفة الغربية وقُراها ومخيَّماتها. مع ما يرافق ذلك من انتهاكات صارخة، كما ظهر أخيرا، من اتخاذ فلسطينيين دروعًا بشرية لقوات الاحتلال، كما حدث في مخيم الفوار، بالخليل، مع الأسير المحرّر علاء أبو هشهش، وكذلك حين اتَّخذت أبًا مع طفله درعًا بشريًّا، في مخيم عقبة جبر، في أريحا، هذا إلى جانب عقوبات جماعية ممنوعة وَفْق القانون الدولي، من هدم للبيوت، ومن حصار، وإعاقة التنقُّل خارج تلك التجمُّعات الفلسطينية، التي كثيرًا ما تصبح أشبه بالمعازل، كما كثّف، أخيرًا، في وضع كتل إسمنتية، وبوَّابات مغلقة، أو أنها تقيِّد الحركة الحيوية، للخارجين والداخلين. والغرض من مجمل هذه السياسات الاحتلالية جعْل حياة الفلسطينيين صعبة، قدر الإمكان، وإجبارهم، ببطء، على مغادرة منازلهم، وإفساح المجال أمام المستوطنين الإسرائيليين.
الغرض من السياسات الاحتلالية جعْل حياة الفلسطينيين صعبة، قدر الإمكان، وإجبارهم، ببطء، على مغادرة منازلهم
أما، وحربُ غزّة؛ المصيرية هذه، دائرةٌ رحاها، فإن دولة الاحتلال تعمل على منْعِ انفجارٍ أكبر للأوضاع الأمنية في الضفة الغربية؛ حتى لا تضطر إلى تشتيت قوَّاتها، مع احتمالات توسُّع المواجهات في شمال فلسطين، جنوبي لبنان، ومع ذلك ترتفع على نحو ملحوظ وتيرة التصعيد والقتل في صفوف الفلسطينيين، إذ فاق عدد الشهداء 182، وتجاوَز عدد الجرحى 2300. وفي يوم الخميس الفائت، وحده، أسفرت عمليات الاحتلال والمواجهات عن وقوع 18 شهيدًا، ولا تكاد مدينة، أو قرية، أو مخيم، يخلو من اقتحامات، واعتقالات، وتصفيات، تجري يوميًّا، أو على نحو شبه يومي، ليلًا، ونهارًا، ولم يعد ثمة وقت تُؤمَن فيها جرائم الاحتلال، فضلًا عن مستوطنيه، الذين بلغ تماديهم حدًّا أقلق رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو نفسَه، هذا علاوة على الخطورة الحقيقية المقلقة لكلِّ من تضطره مصالحُه إلى السفر في شوارع الضفة التي انخفض الوجود الفلسطيني فيها، على نحو ملحوظ.
وعليه، لا تلغي الحرب المهولة في غزّة، أو تَحُدُّ من أولوية التهويد والاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وقد كان التغوُّل الاحتلالي في القدس، في المسجد الأقصى، وفي الضفة الغربية، على العموم، الدافع الأهم لعملية طوفان الأقصى. لذلك كانت الضفة الغربية الساحة الساخنة، قبل الحرب، وفي أثنائها، وبعدها، ما لم يُكبَح جماحُ دولة الاحتلال، بعوامل داخلية فلسطينية، أو بأثر دولي، خارجي.