حذارِ الأوهام مع الكيان الصهيوني وألعابه المخادعة
التنّين الصهيونيّ لم يسقط بعد ولم يتدحرج رأسه. هو جريح فقط، مأخوذٌ بسَوْرة غضبه إذ أُصيب في صميم عنجهيّته وجبروته، يخبط بذَنَبه المعدنيّ العملاق يَمنةً ويَسرةً فيقتل ويدمّر، يلفظ نيراناً غزيرة حارقة ويبلغ صراخه المزلزل عنان السماء. القضاء التامّ عليه يقتضي قطع الرأس، ولا أدري إن كان أحدٌ يدري كيف، بعدما تركناه عرباً وأصحاب أرض وحقّ يبني قلعته طوال عقود غافلين خانعين، حتّى أفاق بعض أهل الحقّ على حقّهم وأقدموا على الفعل التحرّري الأعظم منذ نحو ثمانية عقود من النضال والصراع، أيّ السابع من أكتوبر (2023) المجيد، الباهظ الثمن، العادل والمحقّ في كلّ الأحوال، والمنتفض ضدّ اعتقال شعب بأكمله ومحاصرته وقتله وتجويعه داخل أكبر سجن في الهواء الطلق على وجه الأرض. غير أنّ هذا الفعل التحرّري البطوليّ أفلح في جرح التنّين وتوجيه طعنة إلى صدره... لكنّه لم يُمِتْه فظلّ قادراً على الردّ الانتقاميّ غير المستكين حتّى الساعة.
يجب الحذر أيضاً من الرهان على خلافات أو تباينات حادّة، بين الكيان المُختَرَع والولايات المتّحدة أو بينه وبين بعض الدول الغربية المستميتة في دعمه
أكثر ما ينبغي أن نخشاه، هو افتراض أنّ النصر تحقّق على نحو ناجز وتامّ لقوى المقاومة في غزّة وخارجها، وأنّ هزيمة العدو باتت حتميّة ونهائيّة، وأنّ قدراته العسكرية تضاءلت كثيراً، مع أنّ ثمّة في افتراض كهذا بعض الحقيقة، وليس كلّها. أُضعف هذا الكيان الوحش وأُنهِك، انكشف جُبن عسكره في مقابل بسالة مقاتلي غزّة الأبطال، اهتزّت جبهته الداخلية الحصينة في الأمن والأمان والاقتصاد، فقد كثيراً من هيبته كياناً منيعاً وجيشاً متفوّقاً، ضُرب في مختلف نواحي مِنْعته ومناعته، بالتأكيد، إنّما ليس إلى درجة ضمان لا عودته إلى ما كان عليه، وهنا يجب عدم المبالغة في تصوير الصمود البطوليّ، والتصدّي العظيم، بأنّه سَحْقٌ ومَحْقٌ لعدوّ مُجرم تدعمه دول تضاهيه إجراماً بالمال والسلاح والإعلام والموقف السياسيّ، والحماية القانونية بالضغط على المحاكم الدولية، العدلية منها والجنائية. لم يفقد الكيان الصهيوني بعد كثيراً من أوراق تحالفاته، ومن اللوبيات الصهيونية المنتشرة في أنحاء العالم.
يجب الحذر أيضاً من الرهان على خلافات أو تباينات حادّة، بين الكيان المُختَرَع والولايات المتّحدة أو بينه وبين بعض الدول الغربية المستميتة في دعمه، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. هنا خبث المحتلّ في محاكاة خبث المُستعمِر. المشروع مشترك؛ السيطرة الكاملة ونهب الثروات، معاداة الإسلام والقضاء على قواه الحيّة وتدجينه وإخضاعه، وإلحاقه تابعاً وخادماً مسلوب الإمكانات والقدرات، تدمير المجتمعات العربية وكيّ وعي شعوبها بالقيم الغربية المستوردة، وإشاعة آفات الاستهلاك والخفة ومظاهر الثراء وأشكال الترفيه، التي تُنسي الشعوب قضاياها وقيمها الذاتية وثقافاتها. الغزو والسطو ماديّان ومعنويّان وثقافيّان وحضاريّان، في الوقت نفسه، والمؤلم أنّ النظم وأسياد القرار في العالم العربي المُستهدَف ينقادون طوعاً إلى هذا المشروع، ويلتحقون به في تباهٍ جاهل لا يأبه لمصير الأمة جمعاء، وليس لمصير فلسطين فحسب.
وهمٌ آخر يجدر تداركه، هو الانخداع باختلافات أو نزاعات داخل الكيان الصهيونيّ نفسه، من نوع هذا أفضل من ذاك أو هذا مختلف عن ذاك. بيني غانتس ليس في أيّ حال أفضل من بنيامين نتنياهو، وليس يئير لبيد بأفضل من الاثنين معاً.. كلّهم يتحدّرون من سلالة صهيونية واحدة، نشأت على عقيدة القتل العنصريّ، وسرقة الأرض، وطرد السكان الأصلانيين، وإقامة المزيد من المستعمرات التي أضحى حجمها مقلقاً جداً. في دولة "ما بعد الفاشيّة" هذه (تيمّناً بمصطلح "ما بعد الحداثة")، لا يُخدعنّ أحدٌ بعد الآن بأكذوبة الصقور والحمائم، وليخرج الجميع من وهم "غانتس أفضل من نتنياهو"، مثلما كان سابقاً وهم باراك أفضل من بيريز أو أولمرت أفضل من باراك، إلى آخر هذه الحلقة المفرغة من خداع لعبة "الأفضل" في مجتمع صهيوني لا يُنتج سوى قتلة وسفّاحين عنصريين مجانين لكلٍّ منهم سجلّه الطويل و"مآثره" الإجرامية.
ولا أدري إن كنّا نستطيع أن نثق بأصوات منتقدة في المجتمع الإسرائيلي، سواء من العسكريين أو الإعلاميين، المرتفعة بشأن الإبادة الحاصلة اليوم في غزّة، أمثال الصحافي جدعون ليفي
يجب أن نفيق جميعاً من وهم "الحمائم والصقور" داخل القفص الواحد، الذي تتعايش فيه القوى اليهودية المُختلفة، المُتّفقة على الجوهريّ؛ "أرض إسرائيل التوراتية لنا". عقيدة ثابتة في عقل كلّ إسرائيليّ، حتّى في أوساط "دعاة السلام"، إن وُجدوا حقاً، أو في أوساط المتديّنين الذين يزعمون أنّ "إسرائيل" قائمة خلافاً لإرادة الإله الذي يؤمن به اليهود، ومع ذلك، هم مقيمون سعداء، ومحتلّون في هذه الـ "إسرائيل" (!) حالة فصامية رهيبة يكابدها، أيضاً، أكاديميون ومثقفون ناقدون بعنف للدولة الصهيونية، لكنّهم باقون مع ذلك فيها (بعض هؤلاء أكثر انسجاماً مع فكرهم وخطابهم المناهض وترك الكيان المحتلّ فعلاً، أمثال إيلان بابيه وغيلاد أتسمون). ولا أدري إن كنّا نستطيع أن نثق بأصوات منتقدة في المجتمع الإسرائيلي، سواء من العسكريين أو الإعلاميين، المرتفعة بشأن الإبادة الحاصلة اليوم في غزّة، أمثال الصحافي جدعون ليفي، الذي بلغ حدّ نعت المجتمع الإسرائيليّ كلّه بالمجتمع المريض نفسيّاً، ولا يمكن أن يفهمه أحد سوى محلّل نفسيّ، نظراً إلى اضطراباته وعُصابه وعدوانيته. ورغم أنّه كلام محقّ لصحافيّ إسرائيليّ، له مقال يوميّ أو شبه يوميّ في صحيفة هآرتس، واسعة الانتشار، إلّا أن تجاربنا مع هذا الكيان جعلتنا في شك إزاء حرية الرأي فيه، فنخشى أن تكون مظهراً من مظاهر "ديمقراطيته" الزائفة، ودوراً من أدوار "الحرّية" التي يزعمها. لذا يقتضي واجبنا أن نبقى دوماً حذرين.