حافلة غزّة للمفاجآت

09 اغسطس 2024
+ الخط -

في وقتٍ كنا نظنّ فيه أنّنا بلغنا عصر نُضجِ الحضارات، صدمتنا حافلة المفاجآت. وما من وصف يليق بحرب الإبادة التي تشنّها اسرائيل على غزّة أكثر من أنّها حربُ مفاجآت من اللحظة الأولى. فمن كان يتوقّع "طوفان الأقصى"، والقدرات البطولية التي أظهرها الغزّيون. ومن كان يتوقّع أن تشنّ إسرائيل حربَ إبادةٍ علنيةٍ بلا حسيب. ومن كان يظنّ أن يدها ستطاول عُمقَ دولةٍ يُقال إنّها ندُّها الوحيد في المنطقة، والتي يظنّ الناس أنّها كفيلة بها، إذا هاجت "الهوائج".
حافلةُ المفاجآت، حملت أيضاً ثغرات غير متوقّعة في جدار المقاومة، فهي لم تقدم حماية كافية لقائدها السّياسي، رغم أنّها فاجأتنا بقدرتها العسكرية والتّكتيكية. هي التي تبذلُ إسرائيل جهوداً خرافية لاغتيال قيادي واحد فيها موجود في الأرض، في منطقة مكشوفة شبراً شبراً، وقليلاً ما تنجح. رغم أنّ الجزء الأكبر من التقصير في حماية إسماعيل هنيّة يقع على إيران.
ولم نكد نتجاوز صدمة اغتيال إسماعيل هنيّة، والشعور الخفّي بالهزيمة والتشاؤم بما سيأتي مع تنامي العنجهية الإسرائيلية، حتّى فاجأتنا "حماس" باختيار يحيى السنوار. لتقول إنّ الهزيمة ليست خياراً، وإنّ اغتيال قائد سياسي لن يؤدي إلّا إلى اختيار قائد عسكري. لينقلب السّحر على الساحر. لكن حافلة المفاجآت صدمت إيران نفسها، لتثقب بالون الثقة الزائدة في أنّها قوّة إقليمية مهابة الجانب، وفي خطّ أحمرَ لن تتجاوزه إسرائيل، وأميركا المحرّك الحقيقي، والتي فاجأتنا أيضاً، رغم تظاهرها الصّفيق بالمفاجأة، بأنّها ترى الإبادة حلّاً وحيداً. لذا سمحت لإسرائيل باغتيال المفاوضات، لتُغرق الحرب في حفرة أعمق، أملاً في تحقيق انتصار مستحيل.
لكنّ الأسوأ لا يقف عند شروخ الجدار الأمني الإيراني، لأنّه شمل خروج إسرائيل من مرحلة السعار الداخلي، والدخول في مطاردة خارجية رعناء، مثل طفل أفسده الدّلال الأميركي، فصار يركل القريب والبعيد. متفاخراً. فنتنياهو أعلن أنّ يد إسرائيل تَطاول كلّ مكان ترى فيه خطراً عليها. فاجأنا الإخوة أيضاً، فالنمور التي كنّا نظن أنّها حولنا، ورغم خضوعها، فلا بدّ من زمجرة أو أخرى بين الحين والآخر، لكنّنا كنّا متغطّين بالوهم، لأنّها محض قطط منزلية لا تجرؤ حتّى على التنديد.
أين ردّات الفعل التي تتغنى بها دول ومنظّمات تجاه أيّ فعل إسرائيلي يتجاوز الخط الأحمر؟ يبدو أن الخطّ الأحمر يعني أمن الأنظمة ودوامها، لا أمن بلادها. فيمكن لأيّ جنرال إسرائيلي أن يقترح قصفاً أو اغتيالاً، داخل حدود هذه الدولة أو تلك، ويتم الأمر في هدوء محيّر. من كان يظنّ أنّ دولاً من المنطقة العربية ستواصل احتضان العلاقة الدبلوماسية مع إسرائيل في قمّة وحشيتها، ولو من باب أضعف الإيمان؟ ولم تندّد باغتيال القائد السياسي لـ"حماس"، مع أنّه لو حدث العكس وقُتل نتنياهو الملطّخة يده بدماء الأطفال، لندّدوا، بلّ ولطموا في الجنازة. ورغم أن فوزُ دونالد ترامب لن يفاجئنا، لكنّه سيفاجئنا بما سيفعله، وإلى أيّ درجة سيقف فيها يداً بيد مع إسرائيل في سعيها إلى إهدار الدماء، واغتصاب المزيد من الأراضي والحقوق.
وإذا كان المتفائلون يأملون أن تُفضي المفاوضات إلى فرجٍ قريب، والواقعيون واثقون من أنّ المفاوضات مع كيان بُني بالدماء مُجرَّد تمثيلية تحمي بها نفاق الغرب، بينما تدكّ الأرض على الأبرياء. فآخر مفاجآت دفعتهم جميعاً إلى التخلّي عن الاعتقاد بأنّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها، في عالم كنّا نظنّ أنّه مُدجَّج بالقواعد والمؤسّسات الدولية.
يبدو أنّنا نعيش مرحلةَ انهيار المنظومة الأممية، التي قريباً لن تكون أكثر جدوى من جامعة الدول العربية؛ كثيرٌ من التنديد ولا شيء في الأرض. مثل أجراس الريح على أبواب المنازل، ما تفعله كلّه هو أن تهتز إذا مرّ بها أحدٌ، لكن بلا تأثير على الإطلاق، حتّى أنّ صوتها أضعف من أن يكون قادراً على التحذير.
فوق ذلك كلّه، خطّة إسرائيل لتحويل الحرب إلى الخارج، نحو دول معينة، لتخدير العالم بحقنة مُحاربة الإرهاب، قد تحمل مفاجآت أخرى. فـ"بوعو" الإرهاب علاج سحري لأصغر الأزمات ولأفدحها. و"بوعو" هو الوحش الخيالي الذي تُخيف به الأمّهات أطفالهن في المغرب إذا لم يسمعوا كلامهن.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج