حاشية عن التعليم بمناسبة عملية محمد صلاح
سبّبت عملية معبر العوجة في مصر صدمة كبيرة لإسرائيل، وكشفت عن ثغرات خطيرة في المنظومة الأمنية لجيشها، ووجوه تقصير عديدة، وأسهمت في التأكيد على تآكل قوة الردع التي يملكها هذا الجيش. لم تتوقّف إسرائيل خلال الأيام الماضية، منذ وقوع العملية التي فاجأ بها الجندي المصري محمد صلاح الجميع في 3 يونيو/ حزيران الحالي، عن الحديث كيف أن جنديا مصريا غير مدرّب، ينتمي لسلاح الأمن المركزي، يتمكّن بسلاح قديم من قتل ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح اثنين، فضلا عن تفاصيل الإهمال التي أدّت إلى وقوع هذه "الكارثة".
الملاحظ هنا أننا حين نراقب ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية بشأن العملية نجد أن إسرائيل، حسبما أشار الصحافي الإسرائيلي، أمير بار شالوم، حرصت على ألا تبالغ مطلقا في ردّة فعلها، واكتفت بما جاء على لسان رئيس وزرائها، نتنياهو: "نحن أمام حدث خطير، يتطلّب من المصريين التعاون بشأنه، وأن يقدّموا تفسيرا لما حدث"؛ فإسرائيل على قناعة تامة بأن علاقتها بالنظام المصري استراتيجية، وأن هذا النظام لا يدخر جهدا في التنسيق الأمني معها. لكن ذلك لم يمنع محللين، مثلما فعل مدير الإذاعة الإسرائيلية السابق، يوني بن مناحيم، من إبداء تحفظاتهم على الخطأ الذي وقعت فيه السلطات المصرية، حين وضعت هذا الجندي على الحدود مع إسرائيل رغم أن صفحته على "فيسبوك" تظهر تأييده الواضح للفلسطينيين في صراعهم ضد إسرائيل! ولذلك، ما تشدّد عليه إسرائيل حاليا هو اختيار أفراد حرس الحدود المصريين بعناية، حتى لا تتسرّب بينهم أي عناصر "متشدّدة".. وخوفا من احتمالية أن يحدُث أمر مشابه على الحدود مع الأردن، سوف تؤكد إسرائيل على الأمر نفسه مع عمّان.
الشارع العربي في أغلبه رافض اتفاقات السلام، والتطبيع مع دولة الاحتلال، وما زال يتعامل معها بوصفها عدوّا
وإذا كانت للعملية التي حدثت دلالات خطيرة على طبيعة الأداء العسكري للجيش الإسرائيلي، إلا أنها تظلّ على الرغم من ذلك عملية فردية عرضية، نادرة الحدوث. ولذلك، أتخيّل أن ما صدم إسرائيل أكثر هو ذلك الاحتفاء العربي الواسع بالعملية ومنفّذها في وسائل التواصل الاجتماعي تحديدا، من دون أن يعبأ المحتفلون بردّة فعل حكوماتهم، خصوصا وهم يعلمون أن هذه الحكومات لا تكتفي بالتطبيع الرسمي، بل تحارب مظاهر العداء الشعبي تجاه إسرائيل.
يكشف ذلك، بالطبع، عن مدى كره إسرائيل، ويؤكّد أن الشارع العربي في أغلبه رافض اتفاقات السلام، والتطبيع مع دولة الاحتلال، وأنه ما زال يتعامل معها بوصفها عدوّا، فالمعاهدات، من وجهة نظرهم، لم تؤد إلى حل المشكلة الفلسطينية، ولا إلى الرخاء الاقتصادي، أو استقرار المنطقة. ولهذا السبب، كانت السلطات المصرية، طبقا ليوني بن مناحيم، حذرة في التعامل مع الحدث على مستوى الشارع، ورغم اتفاقها على مستوى القنوات الأمنية مع إسرائيل على خطورة ما حدث، وقناعتها بالعمل على منع تكراره، ربما اضطرّت إلى استخدام روايتها تلك (مطاردة الجندي المصري تجار مخدّرات) من أجل الحفاظ على الوضع الداخلي في مصر، ولكي لا تسري العدوى بين جنود آخرين.
تتدخّل المؤسّسات الدولية المرتبطة بالغرب وإسرائيل، بشكل واضح، في تغيير مناهج التعليم في العالم العربي للتخلص من العداء
وتدرك إسرائيل أن التعليم هو الرافد الأهم الذي يسهم في تنامي حالة العداء معها على هذا النحو. ومن هذا المنطلق، تتدخّل المؤسسات الدولية المرتبطة بالغرب وإسرائيل، بشكل واضح، في تغيير مناهج التعليم في العالم العربي للتخلص من هذا العداء، ولإنتاج أجيالٍ تؤمن بالسلام مع إسرائيل، وتصبح أقلّ تفاعلا مع القضية الفلسطينية، وتتناسى حقيقة اغتصاب أرض فلسطين وضرورة استرجاعها. ويشير عوفير وينتر، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، إلى خطة تغيير جذرية في مناهج التعليم في مصر، وتأتي إشارته في مقال كتبه عن دراسة أعدّها المعهد الدولي للبحوث والسياسات Impact-se، وهو متخصّص في دراسة مناهج التعليم في العالم، وفحص 271 كتابا تعليميا نشرتها وزارة التعليم في مصر بين عامي 2018 و2023، وكتب تقريرا جاء فيه أن النتائج "تدلّ على تحسّن واضح في النظرة إلى اليهود، والديانة اليهودية في الكتب الدراسية التي أعيد تأليفها كجزء من إصلاح المناهج التعليمية، والتي وصلت إلى الصف الخامس، وفيها جرى إدخال قيم عامة كثيرة تشجّع على السلام، والتسامح، وقبول الآخر بصورة واعدة". ويشير التقرير أيضا إلى تجنّب الكتب المدرسية الجديدة أي صور نمطية معادية لليهود: "لا تتضمّن الكتب المدرسية التي نشرت في السنوات الأخيرة الصور النمطية المعادية للسامية، أو الدوافع العنيفة ضد اليهود وإسرائيل، والتي كانت موجودة في الكتب المدرسية السابقة؛ مثل إسناد الأفعال السيئة والصفات السلبية تجاه اليهود، كالاحتيال، والجشع، والغدر، وحل مكانها الحديث عن قيم التعايش والأسس المشتركة بين الإسلام واليهودية". وقد وصل الأمر إلى أن بعض هذه الكتب تطلب من الطلاب تحت عنوان "دليل التعاون مع الآخرين" "ذكر أمثلة تعكس علاقات الاحترام والتسامح مع اليهود من واقع السيرة النبوية، وكيف يمكن تطبيق هذه القيم في الحياة اليومية بما يتناسب مع عصرنا الحالي". وبالتالي، تراهن إسرائيل، طبقا لوينتر، على أنه في غضون جيل أو اثنين ستشهد تغييرا ملحوظا على الشباب المصري.
وأوضح مقال آخر لإيتامار أيخنر في "يديعوت أحرونوت"، نشر في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، أن هناك ثورة في مناهج التعليم المصرية يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويتوقع أن تنتهي في 2030، ويقول أيخنر إن بعض الكتب السابقة كانت تتحدّث عن أن غدر اليهود وخيانتهم النبي محمّد كانا السبب الأساس في حربه ضدهم، لكن الكتب الجديدة تخلّصت من هذه الأفكار وأصبح تركيزها منصبّا على قيم التعايش والتسامح، وكيف أن النبي سعى إلى إقامة علاقات طيبة مع اليهود. الأكثر من ذلك، وفقا لكلام أيخنر، أن بعض الكتب الدراسية حين وضعت خريطة فلسطين لم تذكر اسمها، ما يشير إلى توجّه واضح نحو تغيير الوعي لدى طلاب المدارس في مصر. ويختم أيخنر بإشارته إلى ما تضمنته بعض كتب الدين المسيحي من معلومات توثّق حقّ إسرائيل التاريخي في أرض فلسطين، إضافة إلى اقتباسات توراتية ترسّخ وجود هيكل سليمان.
علماء كثيرون محدثون يؤكّدون أن علم آثار فلسطين تحديدا جرى تسييسه منذ وقت مبكر لإثبات مصداقية النصّ التوراتي
ولا يخفى ما في ذلك من خطورة؛ فمثل هذه المعلومات تتضمّن مغالطاتٍ علمية واضحة، إلى جانب أنها تقف إلى جانب الادّعاءات الصهيونية التي اختلف عليها علماء آثار فلسطين، والمتخصّصون في دراسة العهد القديم؛ فما تضمّنته بعض كتب الدين المسيحي من اقتباسات من العهد القديم عن هيكل سليمان يعني ضمنا الموافقة على ما تقوم به إسرائيل من حفائر للبحث عن بقايا هذا الهيكل من دون أي اعتبار لما يمكن أن تسفر عنه من إضرار بالمقدّسات الإسلامية، على الرغم من أن علماء كثيرين محدثين أمثال توماس تومبسون، ونيل لامكه، وفيليب دافيز، ونيل سيلبرمان، وإسرائيل فنكلشتاين ... وغيرهم يؤكّدون أن علم آثار فلسطين تحديدا جرى تسييسه منذ وقتٍ مبكّر لإثبات مصداقية النصّ التوراتي، والتأكيد على صحّة المزاعم الصهيونية، وأن بعض النصوص عن هيكل سليمان في العهد القديم لا يوجد ما يدعمها مطلقا في علم الآثار.
لا تقتصر هذه الخطة التي تهدف إلى تغيير مناهج التعليم بما يؤدي لقبول إسرائيل في النهاية على مصر، بل تشمل دولا عربيا أخرى. ويقول غريك أجاسي، نائب رئيس المعهد الدولي للبحوث والدراسات، "إن مصر تثبت تفهمها ما يجب أن تكون عليه الكتب المدرسية حاجزا حاسما أمام التطرّف منذ الصغر، وإن مصر تنضمّ إلى دول عربية أخرى تمحو التحريض والكراهية من كتبها المدرسية".
تظن دولة الاحتلال إذاً أن خطّة تغيير المناهج التعليمية ستكون الوسيلة التي يمكن أن يقتنع الشارع العربي من خلالها بأن إسرائيل وُجدت لتبقى، وتظن كذلك أنه باكتمالها في عام 2030 سوف يتحقّق لها ما تريده. هنا تحديدا جاءت عملية معبر العوجة وردود الفعل الشعبية حولها، وعجز السلطات عن قمع التفاعل الواسع معها لتثبت أن ما يجري من تعديل لبرامج التعليم في العالم العربي، على خطورته وضرورة التصدّي له، لن يمحو حقيقة ما تعزّز في العقل الجمعي العربي، والضمير الإنساني، من كره للمحتل الغاصب أرض فلسطين؛ فالظن، في نهاية الأمر، لا يغني من الحقّ شيئا.