جيل ما بعد الربيع العربي
يتناول نجيب محفوظ في روايته "السكرية"، ثالث أجزاء "ثلاثيته" الخالدة، جيل شباب ما بعد ثورة 1919 في مصر، الذين لم يشاركوا فيها لحداثة عمرهم، لكن وعيهم السياسي تفتّح بسببها. يروي عن مشاعر كمال، الابن الأصغر للسيد أحمد عبد الجواد. يشعر هذا الشاب بإحباط بالغ من خسارة مكاسب الثورة، وفي مقدمتها دستور 1923 الذي ضمن سلطات البرلمان في الملكية الدستورية، وكذلك من انفضاض الشعب بعد موجات من القمع.
"أجل، لقد عاصرت عهد محمد محمود، الذي عطّل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات! كما عشت سنين الإرهاب التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد. كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاماً له، لكنه يجد فوق رأسه دائماً أولئك الجلادين البغضاء..". يتحسّر كمال على الشعب الذي "اتخذ موقفاً سلبياً، شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية، والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بمجلس المتفرج، وراج يشجع رجاله في همس دون أن يمد لهم يداً".
ليس مشهد الثائر المهزوم غريباً على بلادنا، ومن الواجب حقاً تقديم مراجعاتٍ شجاعة ومنفتحة، لكن من دون أن يتحول نقد الذات إلى جلد الذات. ونعرف اليوم أن خلافات الأحزاب المصرية بعد ثورة 1919، وكذلك خلافات داخلية في حزب الوفد كان لها دور مدمّر، بالضبط كما نعرف أن الاستقطاب الإسلامي العلماني في مصر، وغيرها من دول الربيع العربي، كان بوابة نفاذ الحكم الاستبدادي. كما أن ضعف التنظيمات السياسية الممثلة للثورات كان عاملاً سلبياً آخر، نجت منه ثورة 1919، حيث تشكّل تنظيمها الضخم، حزب الوفد، من عمل دؤوب على الأرض، وهو ما أمكنها من تمثيل نفسها لعقود تالية.
ولكن يجب التأكيد أن هزيمة الربيع العربي كانت، في المقام الأول، بسبب موازين القوى المادية البحتة. بالضبط، كما نعرف اليوم أن تعليق الدستور عام 1930 كان بفعل دبابات الإنكليز، وهم دخلوا مصر بفضل قذائف المدفعية، لا بمباراة كلامية.
ليس من الصحيح أن "القمع عمره ما غيّر فكرة"، بل قد زالت أفكار من الوجود بمحو معتنقيها. هيمن الحزب الشيوعي الصيني على الصين، لأنه سحق خصومه عسكرياً في حربٍ أهلية. وكذلك انتهت الشيوعية كمشروع حكم من إندونيسيا بعد قتل نحو مليون شخص على يد سوهارتو.
واجه الربيع العربي خصوماً أثبتوا أن بإمكانهم فعلاً "حرق البلد"، كما بالهتاف الأسدي الشهير. وإذا لم تكف الوحشية المحلية في كسر الرقاب المرفوعة، يمكن استيراد مزيد منها بحلفاء إقليميين ودوليين. لكن في المقابل، نشأ الربيع العربي لأسبابٍ مادّية بحتة. الفقر والبطالة، وعنف الشرطة، وغياب الثقة بعدالة مؤسسات الحكم. وما دامت الأسباب نفسها مستمرة، تظلّ الأفكار الناجمة عنها حية وملهمة، وهو ما نشهده في جيلٍ جديدٍ أطلق موجة ثانية من الربيع العربي في السودان والعراق والجزائر ولبنان، كما أنه يتبلور ببطء في دول الموجة الأولى. ولعل هذا ما أطلق سباق سيطرة على الأفكار، لا على الأجساد فقط، وتشهد مواقع التواصل المصرية، على سبيل المثال، موجةً من "المؤثرين" المدعومين من السلطة.
يتغير في "السكرية" كل شيء فجأة. يشارك كمال، المحبط على سبيل العادة، في احتفالية "يوم الجهاد" عام 1935، أي بعد 15 عاماً على الثورة وثمانية أعوام على وفاة الزعيم سعد زغلول، والتي كانت مناسبة يشارك بها الوفديون وحدهم. ولكن تصادف هذا العام أن انطلقت شرارة، هي تصريح من وزير الخارجية البريطاني، صمويل هور، بأن دستور 1923 غير صالح.
فجأة استيقظ العملاق. تحول اليوم إلى انتفاضة عارمة، وكان لطلاب المدارس، الذين لم يشهدوا الثورة، دور رئيسي فيها، وسقط منهم شهداء، أشهرهم عبد الحكم الجارحي، على كوبري عباس. في النهاية، رضخ الملك والإنكليز وعاد دستور 1923، وظل قائماً عشرين عاماً حتى ثورة يوليو 1952.
السياسة كالدنيا، دوّارة. والواجب محاولة الاحتفاظ بـ"الأصول السياسية"، أي الحركات والأحزاب والمجموعات الديمقراطية، ولو وجوداً خاملاً في انتظار لحظةٍ قد تطول، لكن لا تستحيل.