جولة مختلفة للموت في غزّة
بعيدا عن النافذة المطلّة على الخارج، حيث تدور المعركة ذات الطراز الجديد هذه المرّة، أقف على مسافةٍ ليست بعيدة، لكي أستطيع من خلال حاسّة سمعي أن أحدّد مصدر القصف المستمرّ على غزّة، وهذه المرّة لاح شبح ابتسامةٍ على وجهي المتعب، وعلى عكس ما كان يحدُث كل مرّة في جولات عدوانٍ سابقة، تذكّرت مشهدا قديما في فيلم رديء بالأبيض والأسود، وضعني أمام الشاشة ساعتين لمجرّد الضحك، ولكن مشهد النهاية ظلّ عالقا في ذاكرتي، واعتقدتُ أن قصة الفيلم كلها ليست ذات مغزى مثل هذا المشهد، وحيث يُصاب أحد أفراد العصابة إصابةً مميتة، ويقع أرضا مضرجا بدمائه. وفي هذه اللحظة، تقترب إحدى النساء الحسناوات منه وتنحني أرضا في محاولة لإنقاذه، ولكنه كان يلفُظ أنفاسه الأخيرة، ولم يمنعه ذلك من أن يقدّم لها الشكر، لأنها قد حقّقت له أمنية لم تتحقق طوال حياته، فقد كان هذا العضو دميم الخلقة، وهذه أول امرأة تنظُر في وجهه الدميم، فأغمض عينيه للمرّة الأخيرة، وعلى وجهه أطلال ابتسامة وحيدة.
حقّا، هذه المرّة مختلفة تماما، وها أنا وعلى وجهي شبح ابتسامة أقف وأشعر أن كل قهر السنين التي مضت قد زال عن أكتافي، وأعتدلُ في وقفتي لأترنم ببضع أبياتٍ للشاعر الفلسطيني، عبد الرحيم محمود، وقد أطلق اسمه الاول على أبي تيمنّا به، وأنظر في محاولة لاختراق الأفق، وأرى بعين العزّة والأمل ما تنقله وسائل الإعلام، وما تتناقله مواقع التواصل الاجتماعي، وأستعرض أمام عينيّ الغائمتين بدمعٍ لا أعرف طعمه، ما مرّ بنا من جولات عدوانٍ سابقة في غزّة ابتداء من العام 2008، وتذكّرت تلك الجولة بالذات، والضربة المباغتة التي ضربتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي على مقرّات وزارة الداخلية التابعة لحركة حماس، وأدّت إلى وقوع أعداد كبيرة من الشهداء، وكان من بينهم أحد أقاربي، ورأيتُ من خلال شاشة التلفاز جثمانه مسجّى على الأرض ووجهه ملطخا بالدماء، وكانت الصدمة وقتها لا توصف.
تنقلب المعادلة الآن على نحو غريب وعجيب، وها نحن نمتلك زمام المبادرة، ونوجّه الضربة المفاجئة، على الرغم من كل الاحتمالات التي وضعت بأننا لسنا مقبلين على موجة تصعيدٍ جديدة، وأمام سخطك من يومك المكرّر والأقلّ من عادي، وحيث تسير الأمور إلى الأسوأ في قطاع غزّة الفقير المحاصَر بين مساوماتٍ تحيكها الحكومة الإسرائيلية بشأن حركة المعابر والسماح للعمّال الفقراء بالعمل في مناطق فلسطين المحتلة، ولكن كل ما على أرض الواقع يتغيّر فجأة، لتُصبح أمامك لوحة ما زالت ترسم بكل دقّة لا يتخيّلها عقل، وتجري ريشتها لكي تكتمل وأنت تلهث غير مصدّق ولا مدرك.
الآن أنت المهاجَم والمباغت، فلأول مرّة، يتمكّن مسلّحون فلسطينيون من اقتحام مستوطنات غلاف غزّة برّاً وجوّاً، والاشتباك مع القوات الإسرائيلية من مسافة صفر، وأسر عشراتٍ من جنودهم، وذلك بعد أن طفح الكيل مما تقوم به إسرائيل من اغتيالات وتصاعد عُنف المغتصبين، والاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى بغطاءٍ من حكومة اليمين المتطرّفة.
وتتمنّى لو أن جدّك الذي لم يتوقف عن رواية أقسى ما مرّ به في حياته ما زال حيا، لأن ذلك الوصف تحوّل إلى مرارة عالقة في حلقك، فالتهجير من أرضه وقريته، والاتجاه صوب حدود غزّة، ووصفه كل الخوف والرعب الذي عاشوه وهم حفاة وعراة، حتى وصلوا إلى الحدود والطلقات النارية تطاردهم وهم يحاولون الاختباء بين الوديان وفي الكهوف، إلى درجة أن أحدهم قد طلب من امرأته أن تلقي بطفلتها الرضيعة في بئر ماء مرّوا به، لكي تكون كبش فداء، لأن صوت بكائها سوف يكون سببا في هلاكهم جميعا.
اليوم أنت تشعر بالقوّة، وأنك لو متّ فسوف تموت مبستما، وأنت قد أمضيت عمرك وأنت تشعر ببؤس العالم، لأن الله قد أعطاك وطنا من أجمل الأوطان، ولكنك لا تملك منه إلا الذكريات. ولذلك أنت لا تختلف كثيرا عن ذلك المجرم المحتضر الدميم.