جنين… الأمس واليوم

09 يوليو 2023
+ الخط -

انتهت مؤقتاً جولة العدوان على مخيم جنين. من المؤكّد أنها لن تكون الأخيرة، ما دامت الأهداف التي وضعتها حكومة الاحتلال لم تتحقّق، فلا هي استطاعت القضاء على المقاومين المتمركزين في المخيم، ولا أوقفت العمليات انطلاقاً منه، كل ما تمكّنت من إنجازه، ومثل العادة، مزيد من القتل والتدمير والتهجير، والذي لن يستمرّ طويلاً أيضاً، فالإعمار بدأ سريعاً، وكل من غادر منزله عاد إليه فور توقّف العمليات العسكرية الإسرائيلية.

لمخيم جنين رمزيةٌ خاصة، يدركها أهله ويعلمها أيضاً الإسرائيليون. سطّر المخيم خلال عدوان السور الواقي في عام 2002 واحدة من ملاحم الصمود البطولية في ذلك الحين، في الوقت التي كانت فيه الدبابات الإسرائيلية تستبيح مدن الضفة الغربية وتحاصر الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقرّ المقاطعة. عرفات نفسه وقتها علق على معركة مخيم جنين، واستنبط اسم "جنينغراد"، في إشارة إلى معركة "ستالينغراد" خلال الحرب العالمية الثانية، في دلالةٍ على صمود المخيم وقدرته على إلحاق خسائر كبيرة في قوات الاحتلال التي لم تتمكّن من دخول المخيم إلا عبر تدمير غالبية منازله، والتي أعيد إعمارها لاحقاً.

في ذلك الوقت، كانت العلاقة بين السلطة الفلسطينية والمقاومين في الضفة الغربية وقطاع غزّة على درجةٍ عاليةٍ من التناغم على مستوياتٍ عدة، سواء من التنسيق الأمني أو الدعم العسكري والتسليحي، حتى أن غالبية عناصر الأمن الفلسطيني كانت تُشارك في معارك صدّ العدوان كتفاً إلى كتف مع الفصائل الفلسطينية المتنوّعة.

الحال اليوم مختلفٌ كلياً، بل يكاد يكون معاكساً ما كان عليه سابقاً، فحتى ما قبل العدوان أخيرا على جنين، والذي يعد الأكبر منذ 2002، كانت السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية مشاركة في عمليات ملاحقة الناشطين والمقاومين في المخيم، سواء مجموعات "عرين الأسود" أو غيرها من المجموعات الناشطة في جنين وسائر مدن الضفة. وخلال العدوان، كانت السلطة وقواتها الأمنية في موقف المتفرّج بانتظار انتهاء العدوان بعد "التطمينات" الإسرائيلية بأن العملية العسكرية لن تطول، واكتفت السلطة كالعادة ببيانات الشجب والاستنكار ومطالبة المجتمع الدولي بالتدخّل "لحماية الشعب الفلسطيني".

بيانات السلطة لم تنطل على أبناء المخيم، وهو ما يفسّر طرد وفد "فتح" والسلطة من تشييع شهداء مخيم جنين. هل يمكن لوم المشيعين وأبناء جنين؟ لا أظن ذلك، بالنظر إلى سياق سياسات السلطة خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصاً في ما يتعلّق بالتنسيق الأمني، والذي لا يمكن إنكار أنه لعب دوراً غير قليلٍ في تسهيل دخول قوات الاحتلال لملاحقة الناشطين الفلسطينيين، ليس في جنين فحسب، بل في كثير من مناطق الضفة الغربية. فالسلطة الفلسطينية، ورغم إعلانها أكثر من مرّة عن وقف أو تعليق التنسيق الأمني مع الاحتلال، بعد كل عدوانٍ يقوم به على الأراضي الفلسطينية، إلا أن هذه الإعلانات لم تكن سوى للاستعراض الإعلامي، والتنسيق الأمني لم يتوقف يوماً، وهوما فضحه مسؤولون إسرائيليون عديدون في تعليقاتهم على الإعلانات المتعدّدة للسلطة عن تعليق التنسيق الأمني.

جاء ردّ السلطة على خطوة المشيعين في مخيم جنين بفتح النار على أطراف خارجية بتهمة التحريض على السلطة، بدلاً من محاولة احتواء الموقف الداخلي وشرح أبعاد سياسات السلطة. ربما يأتي عدم القيام بذلك من فكرة أن لا أبعاد حقيقية لسياساتٍ كهذه، ولا نتائج إيجابية تأتي من كل الطريقة التي تدير بها السلطة الصراع سوى مزيدٍ من الانتهاكات والاستباحة للأراضي الفلسطينية، سواء عسكرياً أو استيطانياً.

يمكن اختصار أبعاد هذه السياسة بما يقوله مسؤولو السلطة دائماً، وهو "انتظار شريك السلام". لم تتعب السلطة ومسؤولوها من هذا الانتظار، رغم كل المؤشّرات إلى أنه لن يأتي، وأن تاريخ الاعتداءات الإسرائيلية يعيد نفسه، ولكن بمعطياتٍ داخليةٍ مختلفة كلياً.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".