جنون الاستهلاك وحماية المستهلك
إلى أين سينتهي بنا سباق الاستهلاك المجنون؟ كيف يمكننا أن نحدّ من شهواتنا العارمة تجاه كلّ ما يروَّج في هذا السباق؟ ما الذي جعلنا نتساهل تدريجياً مع هذا الوحش الذي يكاد يقضي على كثير من أسرنا وبيوتنا في سبيل البقاء على قيد ما يسمّونها الموضة أو "الترند" في الملابس والأحذية وأدوات الزينة والعطور ومستحضرات التجميل والمجوهرات المقلّدة، بل حتى الأطعمة والأشربة؟
استضافتني، أخيراً، جمعية حماية المستهلك في الكويت بلقاء قصير بثته على قناتها في منصة "يوتيوب". والحق أنني سُعدت بوجود مثل هذه الجمعية المشهرة من وزارة التجارة والصناعة ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، جمعية نفع عام، تهدف إلى حماية المستهلك من جشع السوق عبر وسائل مختلفة.
ورغم أنّ الحديث عن أهمية رفع وعي المستهلك تجاه ارتفاع الأسعار المبالغ فيه ليس جديداً، فالجديد الذي لمست اهتمام هذه الجمعية الناشئة به هو رفع وعي المستهلك تجاه سلوكيات أخرى، وضع نفسه ضحية لها في السنوات الأخيرة، تساوقاً مع انتشار ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه علينا، نحن المستهلكين من عادات استهلاكية واجتماعية أخلاقية أيضاً ضارّة بنا وبأبنائنا على المديين، القريب والبعيد.
صحيحٌ أنّ بعض الدول، الخليجية تحديداً، انتبهت، أخيراً، إلى خطورة الأمر والسلوكيات الضارّة التي يغذيها معظم مؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيرها، مستغلين سهولة الوصول إلى كل فئات المجتمع، وخصوصا الأطفال والمراهقين بلا تحمّل لأدنى مسؤولية، فاستحدثت بعض القوانين التي تحدّ من هذه الخطورة، كما تحدّ من اندفاع هذه الفئة من المشاهير لتسويق كل شيء تقريبا، بغض النظر عن صلاحية أم عدم صلاحية تداوله في أسواقنا وشوارعنا وبيوتنا، لكنّ هذه القوانين ما زالت قاصرةً في التصدّي لهؤلاء، ولجشعهم اللامحدود وغير الواعي غالباً، فهم يعرفون، للأسف، كيف يتحايلون عليها. وهناك من يبحثون لهم عن الثغرات، لكي ينفذوا من خلالها إلى صغارنا ومراهقينا لإقناعهم بأسلوب حياة مختلف تماماً عن الذي يعيشونه في الواقع.
الملاحظ أنه لا مانع لدى هذه الفئة من المؤثرين الجشعين من كسر كلّ القواعد الأخلاقية والاجتماعية في سبيل ترويج بضاعتهم الاستهلاكية وبأغلى الأسعار، بعد أن يصوّروا شذرات مختارة بعناية شديدة من يومياتهم شديدة البذخ والرفاهية على أنها هي حياتهم الطبيعية، أو أنها هي الحياة الطبيعية التي ينبغي أن يعيشها جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن مقدراتهم المالية وأوضاعهم المادية أو غيرها. وهكذا يجد الشباب المراهق نفسه محاصراً بمثل هذه المشاهد اللامعة والمستلّة من حياة برّاقة جعلته يتصور أنّها هي الأصل، وأنّ حياته العادية ما بين البيت والمدرسة والشارع هي الشذوذ أو العار الذي ينبغي إخفاؤه أو التخلّص منه سريعاً.
آباء وأمهات كثر أصبحوا يشعرون بالعجز الشديد تجاه متطلبات أبنائهم المتزايدة، والتي لا تكاد تنتهي، وكلها تركّز على جانب الكماليات على حساب احتياجات الأسرة الأساسية، وكلها، بسبب ما يضخّه في الوعي العام، نوعية من المؤثرين ومشاهير التواصل الاجتماعي الذين وجدوا في مثل هؤلاء الضحايا ضالّتهم لتضخيم أرصدتهم بلا مجهود حقيقي منهم، فانقلبت مفاهيم العمل والكسل، والثواب والعقاب، بخاصة أنّهم في مأمن من أي مساءلة قانونية، لا في الدول التي سنّت القوانين، ولا حتى في الدول التي ما زالت غير واعية لخطورة الأمر!
في مثل جمعية حماية المستهلك، الكويتية، حلول حقيقية وناجعة لمعالجة هذه المشكلة عبر العمل على زيادة الوعي لدى الجميع على الصعيد الاستهلاكي وكيفية التصرّف تجاهه، وتوقّع المشكلات قبل حدوثها عبر استقراء الواقع، فتحية لهذه الجمعية وكل الكيانات التي تشبهها، على مبادراتها في سبيل وعي استهلاكي أفضل.