جنود للإيجار اليومي

16 فبراير 2024
+ الخط -

يغادر الجندي المنتمي إلى بلدٍ يخوض الحرب سريره مدفوعاً بالواجب، واثقاً من أسباب خوضه المعركة. لكن معظم حروب اليوم افتراءات، نصفُ أطرافها ليس لجنودها أدنى حسّ بالوطنية لأنّهم يقاتلون في حروبٍ أشعلتها دولهم، في بلاد الآخرين، حيث الخصوم ليس لهم معهم جيرة أو سيرة، لكنّهم هناك على أيّة حال. أبرزهم الجنود الأميركيون، الذين يجوبون البلدان عرضاً وطولاً، في حروب بلادهم التي لا تنتهي في دول أخرى. لكن الجنود الذين صاروا الآن يحسمون الحروب، على ما يبدو، هم المقاتلون مقابل المال، وهم جنودٌ من باب الحِرفة، لا من باب الانتماء. مع أن الجندية، في حد ذاتها، مهنة يتقاضى عنها الجندي راتباً، حتى لو كان في حربٍ وطنية. مع أنها مهنة طبقية، معظم المنتمين إليها اختاروها في غياب بدائل، هم القادمون من مناطق فقيرة، بتعليمٍ ضعيف، يتمثل الحافز بالنسبة لهم في الراتب، لا الوطنية. مع ذلك، هناك فرق شاسع بينهم وبين المرتزقة.

جديد ما في جعبة المرتزقة حرب غزّة، التي تتوالى فيها إحصائيات الأجانب في الجيش الإسرائيلي، وفي حرب الغرب في أوكرانيا أيضاً. عدا ذلك، للغرب سوابق في تشغيل المرتزقة، في أفغانستان والصومال. فإذا عزّ عليك أولاد بلدك، أو كانوا قلة، ليس لك سوى القتلة المأجورين. هل يعمل هؤلاء باليوم أو بالساعة أو بالحرب؟ هل يدفعون لهم تعويضاً عن الفوز؟ وهل سيمنحونهم فوزاً؟ أم أنهم مجرّد بنادق يخوضون الحروب، لكنهم لا يربحونها.

من أعذار المُستأجرين للمرتزقة أنهم أكثر خبرة وجدوى، في حالة بلادٍ لم تخض حرباً، وليس لجيشها خبرة ميدانية. لكن هل ربحت أوكرانيا؟ هل ربحت إسرائيل؟ مع الفارق في الوضع، الأول بلد يدافع عن نفسه، وعن مناطق نفوذ الغرب، الثاني نعرفه جميعاً. واستعمل "داعش" المرتزقة بالدافع نفسه، لكن الدَّفع مختلف. فالمقاتل مع "داعش" يصبح قائداً من العصور الوسطى، يستعبد النساء، ويمارس العنف المطلق الذي يصبح فيه القتل أهون الشرور. هذا للهواة، أما الخبراء منهم فلهم المال لجهودهم.

المرتزقة المحترفون الذين لهم أسعار ووسطاء، لا يقتلون إلا مقابل راتبٍ سمينٍ متفق عليه. مع ذلك، باعتبار كل شيء يجوز في الحرب، يمكن لهم أن يأخذوا راحتهم، فمن سيُحاسبهم؟ بل إن وحشيتهم مرغوبة، فيغتصبون ويقتلون الأطفال ويحرقون المنازل والمدن. فضلاً منهم وليس بالضرورة بأمرٍ من مشغّليهم. وفي هذا يتساوى المرتزقة الوطنيون والأجانب. في سورية هالتنا قصص الاغتصاب، والقتل الوحشي للأطفال، والمجازر الأسرية حيث يُجبر أفراد العائلة على مشاهدة مقتلهم واحدا واحدا.

في الحرب العالمية الثانية، استغلّ الاتحاد السوفييتي الجنود الأوكرانيين، وفي ما كتبته سفتيلانا أليكسييفيتش عن قصص الشباب الأوكرانيين، الذين جُرّوا إلى حربٍ ولم يعودوا منها، شهادات مؤلمة. كما استغلت فرنسا جنوداً من المغرب والجزائر والسنغال...، كانت ترسل فرقاً كاملة وتدفعهم إلى مقدّمة الحرب البرّية، لتلقّي الضربات عن الجيش الفرنسي. ذهب جل هؤلاء المغاربيين والأفارقة من أجل مال تعرضه فرنسا التي كانت تمتصّ خيرات بلادهم باليمين، وتمد باليسرى أجوراً على قلتها. لكنهم لم يعرفوا أنهم ذاهبون إلى مطحنة، لا إلى حرب مناوشاتٍ كما عهدوها في بلدانهم.

رأينا كل شيء، وسنرى دولا تستأجر جيوشاً كاملة، مثلما تستأجر الشركات حراس أمن. لكن الشركات ليست أوطاناً، فكيف تثق في مرتزقٍ يخوض معارك لحماية البلاد؟ لهذا تشكل الفئة الظالمة الزبون المثالي للمرتزقة، أما القضايا العادلة فأهلها وقودُها، حتى ولو بأسلحة بدائية كما مع أبطال غزّة.

يمكن اعتبار الجنود الأميركيين مرتزقة بشكل ما، هم الذين يقدّمهم الإعلام الأميركي ضحية، فيما هم المجرمون في الدول التي يذهبون إليها، فالجندي الذي ينتمي إلى الجيش الأميركي، يعرف أنه لن يكون جندي حراسة أو مدافعا عن البلاد، بل سيقاتل في بلدانٍ لا علاقة له بها. لكن ذلك صار يخفّ تدريجيا، لأن أميركا تعلمت أن تخوض الحرب بجيوشٍ محلية، تمدّها بالسلاح فقط، في العراق واليمن وسورية وليبيا. وتستعين بالمرتزقة الذين تزودهم بهم الشركات العسكرية الخاصّة التي تستدرج موظفيها بشتى الطرق، وجديدها أخيرا استعمال مواقع إلكترونية للتجنيد، مثل باقي المهن "الفريلانس".

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج