جنوح السفن والدول أيضاً
على نحوٍ متصاعدٍ تتحوّل الواقعة إلى أزمة. ولا ينكر أحدٌ صحة ما يتردّد في تصريحات مسؤولين مصريين أنّ الواقعة/ الحادثة يمكن أن تحدث في أي مكان، لكن الإقرار بصحة "الفرض" وإمكانية وروده لا يعني قبوله تفسيراً. وتعويم السفينة "الجانحة" لن يكون نهاية القصة، فالأطراف المتضرّرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لم تتحرّك بعد لتطالب المسبّب بتحمّل كلفة الأضرار. والأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام عن الأضرار في مختلف أنحاء العالم درس في الكلفة الكبيرة للعلاقات الاقتصادية المعقدة التي أحدثتها العولمة، وهي بنيةٌ تكاد معها تختفي حدود الاقتصادات الوطنية، وتوشك أن تحلّ محلها "سلاسل التوريد"، وهي بنية اقتصادية جعلت الجغرافيا تتنحّى لتحل محلها هرمية اقتصادية عالمية، وجّه وباء كورونا إليها ضربة. واليوم تضعها قناة السويس في اختبارٍ سيسهم في إعادة اعتبار، ولو جزئية، لما هو "قريب" جغرافياً. وربما أعادت إلى الحياة تفرقةً كادت تختفي بين "الداخل" و"الخارج"، وخصوصاً في إمداداتٍ بعينها. صحيحٌ أن الملاحة العالمية مكوّن رئيس من مكونات النظام العالمي، وصحيحٌ أنها خطت إلى الأمام خطواتٍ قد لا يكون من المحتمل أن ينعكس مسارها، لكن هذه القناة نفسها أغلقت عدة أعوام بين حربي 1967 و1973، لتفرض السياسة قانونها على الاقتصاد.
حماية حرية الملاحة تتطلب ما يتجاوز حماية الممرّات الملاحية منفصلة عن محيطها الجيوسياسي
وإدراك الغرب، بالتجربة، حقيقة أن السياسة يمكن، إذا اختلّت بوصلتها بشدة، أن تجعل الاقتصاد كـ"البطة العرجاء"، قد يجعل من الحكمة، بعد هذه الواقعة، أن يفكّر جدياً في معالجة أزمة "جنوح الدول"، فحماية حرية الملاحة تتطلب ما يتجاوز حماية الممرّات الملاحية منفصلة عن محيطها الجيوسياسي، وها هو الصراع في اليمن تمتد شظاياه، من آن إلى آخر، لتهدّد الملاحة، وبعض هذا الشظايا قد يكبر حجم التهديد الذي تمثله لإمدادات النفط الخليجي.
وإذا كان منطق "النقاط الحصينة"، بالمعنيين، الحرفي والمجازي، قد نجح عدة قرون في حماية حرية الملاحة وتدفق النفط، فإن المخاطر التي شهدتها العقود القليلة الماضية بسبب "الدول الجانحة"، بدءاً من ظهور القراصنة في الصومال، بسبب ما شهدته من فوضى، قد تفرض تغييراً في الرؤية. وفي التجربة الصومالية، ركبت الفوضى قوارب القراصنة، وانتقلت من "الداخل" إلى "الخارج". ومؤسسات الاستشراف في الغرب وفي الشرق الأقصى لن تتعامل مع واقعة جنوح السفينة "حادثاً مرورياً"، وستكون هناك دراسات للواقعة وممكناتها المستقبلية.
يلقّن الاهتمام الدولي الكبير كل الراغبين في إنقاذ "الدول الجانحة" درساً مفاده بأن القوى الكبرى تتحرّك، أولاً وأخيراً، لأجل مصالحها
ومن جانب آخر، يلقّن الاهتمام الدولي الكبير كل الراغبين في إنقاذ "الدول الجانحة" درساً مفاده بأن القوى الكبرى تتحرّك، أولاً وأخيراً، لأجل مصالحها. وبالتالي، من الحنكة السياسية أن تتحرّك محاولات التغيير، مستكشفة "حقل ألغام" كبيراً اسمه: "المصالح"، وكل تغييرٍ يمكن أن يهدّد هذه المصالح تهديداً يصعُب احتماله، يقدّم للأنظمة الحليفة للغرب طوق النجاة الذي يمكنهم باستخدامه وأد التغيير، من دون أن يستشعروا أي احتمالٍ لرفض غربي. وخلال القرن الماضي كله تقريباً، كان للموقف الغربي دور مؤثر في تحوّل رغبة التغيير إلى واقع، ومنطقتنا إحدى أكثر مناطق العالم حساسية بالنسبة إلى المصالح الغربية.
وقد لعبت معطيات توازنات القوى وحسابات المصالح الدور الأكثر تأثيراً في مسار كل "الثورات العربية"، فواجهت مصائر متشابهة، جعلتها تتوزع بين "ثورة غارقة" و"ثورة جانحة" و"ثورة تائهة"! وعلى سبيل المثال، كان الموقف الغربي من نظامي بشار الأسد ومعمر القذافي، بحسابات المصالح في المقام الأول، أحد الفروق الرئيسة بين مصير كل منهما. في الحالة السورية، كانت التضحيات أكبر، وكان النجاح أكثر احتمالاً، وكان الثمن الذي دفعه السوريون بعد "جنوح الثورة" مأساوياً بكل ما في الكلمة من معنى. و"الدول الجانحة" لا تقل خطراً على سلام العالم وأمنه من السفن الجانحة، والاستقرار الذي يمكن أن يضمن لـ "سفينة الاقتصاد العالمي" إبحاراً آمناً لا تضمنه "النقاط الحصينة" وحدها.