جمر تحت الرماد في السويداء
ربما نجح النظام السوري، بمساعدة إيران وروسيا، وبسبب تراجع الدور الأوروبي، وحتى العالمي، في منطقة الشرق الأوسط، في الإخماد المؤقت لثورة الحرية والكرامة التي بدأها الشباب السوري منذ عشر سنوات، وشكلت ملحمة حقيقية في إصرارها مدة تزيد عن عام على سلميتها، على الرغم من عنفٍ لم يعرفه التاريخ، مارسه النظام السوري على شعبه الأعزل الذي كان يقارع، بحناجره وصدوره العارية، أسوأ نظام قمعي مخابراتي بوليسي. نظام حوّل سورية، أم الحضارات، إلى دولة عسكرية مغلقة، تحكمها عصبة أمنية وديكتاتور يبني سلطته على الرعب ثم الرعب، ويضع لها دستورا واحدا هو الفساد ثم الفساد، على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويحوّل جيشها، المشهود له، إلى جيش عقائدي مهمته فقط الحفاظ على استلام بيت الأسد السلطة، ويحوّل حزب البعث إلى مؤسسة مفرغة من كل محتوى أيديولوجي قومي أو اشتراكي، وإلى مؤسسة مخابراتية ببغاوية، تعزّز بماء خرم استبداده وتحميه.
وربما أيضا أن هذا النظام استطاع إقناع اليسار العربي، وبعضا من اليسار العالمي، بأنه نظام علماني يحمي الأقليات، ويواجه الإمبريالية العالمية، مثلما يواجه التطرّف الإسلامي، وأن كل تلك الملايين التي خرجت إلى شوارع سورية، ونادت بإسقاطه، هي ملايين إرهابية، وهو البطل الذي شرّد خمسة عشر مليون إرهابي سوري وقتل مليونين منهم، واعتقل مئات الآلاف، وغيّب عشرات الآلاف قسريا، وهدم أقدم مدن الأرض، ليحصل كما قال على سورية الجديدة أو سورية المتجانسة التي يموت ناسها الآن من الخذلان واليأس والفقر والقهر والعجز والبرد والمرض.
فرز النظام للسويداء أكثر عدد من مخابراته وشبّيحته لقمع حراكها النخبوي ومحاولة افتعال نزاع طائفي
ربما يكون ذلك كله ممكنا، لكن ما لا يمكن أن يكون أن يقتنع أحد من السوريين الآن بأن هذا النظام قابل للحياة والاستمرار، وبأن حجّة حماية الأقليات التي لا يزال يتبجح بها كي يبرّر قصفه الشعب، حقيقية أو حتى مقبولة، خصوصا لدى سكان الجنوب السوري من محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية التي خرج مثقفوها ومحاموها ونخبتها منذ اليوم الأول، وصاحوا "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، ورفعوا شعار سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين "الدين لله والوطن للجميع"، وفرز لها النظام أكثر عدد من مخابراته وشبّيحته لقمع حراكها النخبوي، والتي حاول بكل طرقه افتعال نزاع طائفي مع جارتها درعا أم الثورة ولم يفلح.
والسويداء، المدينة الصغيرة التي كان يسكنها قبل الثورة حوالي 400 ألف نسمة، استقبلت ما يزيد عن 600 ألف نازح جاؤوها من كل مناطق القُطر، ولم تُبن فيها خيمة لنازح، بل لا يزالوا يعيشون بين ناسها وفي بيوتهم. وهي المدينة الوحيدة التي رفض شبابها الالتحاق بالخدمة الإلزامية، كي لا يساهموا في قتل إخوانهم السوريين. وهذا ما جعل النظام يفقد عقله، ويحاول إجبار شباب المدينة على ذلك، لكن مجموعة رجال الكرامة، بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، كانت له بالمرصاد، ورفضت أن يسحب أي شاب منها عنوة إلى الجيش، وكان رد النظام بتدبير تفجير لرجال الكرامة عام 2015 وقتل 42 منهم أمام مشفى السويداء، بمن فيهم الشيخ البلعوس. ولأن المحافظة لم تمتثل كما توقع، جعل في عام 2018 عناصر تنتمي لتنظيم الدولة الإسلامية داعش كان هو نقلها إلى حدود المحافظة، بحافلاته المكيفة، تقتحم الريف الشرقي من المدينة، وتقتل ما يزيد عن 300 مدني ليلا، بعد أن سحب كل قواته من القرى، وقطع الكهرباء والنت عن المدينة في الليلة نفسها.
لا يمكن الاستمرار بالقول أن النظام السوري قابل للحياة والاستمرار، بحجّة حماية الأقليات التي لا يزال يتبجح بها كي يبرّر قصفه الشعب
بعد تلك المجزرة التي اقترفها النظام عن طريق عناصر "داعش" التابعين له، بدأ يتشكل لدى كل أبناء المحافظة غضب وسخط على نظام عاقبهم فقط لأنهم لم يرسلوا أبناءهم إلى جيشه، على الرغم من أن السويداء لم تكن فيها ثورة مسلحة على النظام، كما كان في باقي المناطق السورية. واستمرارا لقرار النظام بمعاقبة المحافظة، افتعل في السنة الماضية اقتتالات بين عناصر مدعومة من الفرقة الرابعة في منطقة بصرى الشام وأحد رجال مخابراته في بلدة القريا، فتورّط بها رجال الكرامة في السويداء، وراح ضحيتها عديدون منهم.
اليوم، وبعد أن حاول رجال الكرامة وشيوخ الطائفة منع الشباب من الانضمام إلى الجيش الذي تسعى إليه إيران، وإلى الذهاب إلى ليبيا، اغتال النظام في يوم 24 من الشهر الماضي (يناير/كانون الثاني) رجلين من مشايخ الكرامة، وأهان رئيس الأمن العسكري في السويداء، العميد لؤي العلي، أحد شيوخ العقل فيها، وهو حكمت الجربوع، لأنه أراد إخراج مدني اعتقلته المخابرات السورية ظلما، الأمر الذي أجّج مشاعر الغضب لدى الناس، وجعلها تتوافد على منزل الشيخ، وتهدد وتتوعد وتحرق صور بشار الأسد في الشارع. قبل أن تصدر "الرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين" بياناً حمّلتهُ رسائل تهدئة ووعيد بأن على "أي مسؤول، أياً كان موقعه، أن يعمل في سبيل الوطن والمواطنين، وأن يدرك أنه خادم للجماهير لا سيد عليها، وألا ينشر بشاعته وتسلطه، وألا تأخذه العزة بالإثم ليجد مستقبله المظلم بما جنت يداه على نفسه".
يقول لنا التاريخ إن عمر الثورات أطول بكثير من عمر الطغاة
وعلى الرغم من أن النظام السوري قد أقال العميد لؤي العلي من رئاسة الأمن العسكري في السويداء، وأبدله بآخر، ومن أن الشيخ الجربوع كان طوال السنوات الماضية محسوبا على من يحاولون حماية المحافظة عن طريق إبقائه على علاقات طيبة مع النظام، إلا أن الغضب الشعبي في المحافظة المليئة بالاحتقان سيبقى مشتعلا، مثل كل محافظات سورية، كجمر تحت الرماد، فشباب السويداء الذين خرجوا في الصيف الماضي، وأحيوا الثورة السورية السلمية، لن يهدأوا. وعاجلا أم آجلا، سيسقط هذا النظام الذي أهان كل سوري في كل بقعة في البلاد. سيسقط في كل مكان، وفي كل قلب، حتى لو بقي على كرسيه الزائل. يقول لنا التاريخ إن عمر الثورات أطول بكثير من عمر الطغاة. لقد حكم فرانكو إسبانيا بالحديد والنار أربعين عاما، بعد أن قضى على أول وأفضل تجربة جمهورية أوروبية، لأن نظام موسوليني كان يدعمه، وبعدما قتل الشاعر لوركا، وشرّد الفنان بيكاسو والشاعر أنتونيو ماتشادوا، لكنه، في النهاية، رحل وانتصرت الديمقراطية وانتصر الفكر الجمهوري.
.. وهكذا، سيكون في كل أراضي سورية، وفي السويداء، وإن غدا لناظره قريب.