جلال الدين الرومي وملامسة روح الفلسفة

05 يناير 2023
+ الخط -

هل ثمّة جسدٌ للفلسفة ولد في أثينا، وروحٌ لها جاءت من الشرق تسبق الفلسفة بقرون؟ روحٌ للفلسفة جاءت في ثياب بوذا ومن سبقه، ومن ضمير مصر القديمة، ونبت عطرا في أجساد متصوّفة الإسلام في الشرق وزهّاده ومرتحليه حتى استقر، بقونية، تحت قفطان جلال الدين الرومي، بعدما مسّته أنوار التبريزي.

ليس هذا سؤال من سبق أو من لحق، ولكنه سؤال الوقوف على دهشة العبارة التي تمشي ما بين الناس، تاركةً التفاسير في ما بعد لعقول الفلاسفة والشرّاح، بعدما تشبثوا فلسفيا بعذاب العقل، العقل ذلك الحيز الضيق والمحدّد، من جمال العبارة، هل جنى على الفلسفة بعدما جنحت العبارة عاليا في الشرق، واختزلت علميا في الغرب، حتى إعلان موت الفلسفة "افتراضا"، بعدما جرتها الأكاديميات والجامعات من هواء الشغف والترحال، إلى قاعات الدرس ونيل الشهادات العليا والترقّي الوظيفي والاستحقاق في ممالك أوروبا وعصورها الوسطى ونزاعاتها التي استمرّت قرونا ولا تزال، وبخسة ووحشية نادرتين، هل تلك الروح بعد الألم وكبر السن هي التي أتاحت لنجيب محفوظ من فيضها أن يتشبث بقفطان عبد ربه التائه، في أواخر سنواته، بعدما ملّت الروح من أشكال الكتابة في السردين، الروائي والقصصي، إلى حيث الدهشة الأولى والعبارة الموحية حاملة كل الدلالات، وإنْ كانت لتباشير تلك الكتابة المختزلة في شخصية عبد ربه التائه، إن صحّ التعبير، "اسكتشاتها السابقة" مبثوثة في ثنايا كتاباته السابقة على استحياءٍ هنا وهناك. نعم استفاد نجيب محفوظ من روح التصوّف، حتى وإن جافى النقد ذلك الرأي، وتنكّر له احتماء برداء العلمية.

تتلامس كتابات جلال الرومي مع الشعر، من دون أن تقصده مهنة أو وظيفة، أو حتى ترفا للروح، وتتلامس مع الفلسفة من دون منهج أو تعبٍ في البحث، وتتلامس مع الرحلة من دون أن تقصد الرحلة في ذاتها بوصفها بحثا عن المغانم في البلدان، فالفلسفة هناك تسكُن جسدا ترامى في العشق، حتى تاه منه السفر وتاه منه الربّان في البحر، فلسفة تجاور الروح، لا العقل، هي رهنٌ لطالع النجوم ومرادات العشق والسفر الدائم نحو المجهول، ذلك المجهول النادر الذي يشبه التبريزي في حضوره، وخطورته في غيابه، فكيف لاطف جلال الدين الرومي الفلسفة من بعيد، من دون أن يروم غاياتها بتلك النصيحة القاطعة للقلب والذات: "ابدُ كما أنت، أو كن كما تبدو"، وكأنه من دون أو يدري خلط فلسفتين كبيرتين من الفلسفة المعاصرة من دون أن يقصد أو يروم ذلك، وهما "الجشطلت والوجودية"، في بضع كلماتٍ صغيراتٍ لا تتجاوز سبع كلماتٍ جامعة مانعة، تأملت الكلمات طويلا، فوقف في حيرةٍ وارتباك، كيف يبدو المرء، وخصوصا في عالمنا المعاصر هذا المليء بالأضاليل، كما هو؟ حقيقة لا لوعا أو تسييسا أو لفّا ودورانا أو احتيالا في أغلب الحالات؟ وكيف يكون المرء كما يبدو، وداخل كل واحدٍ ذلك النمر المعاصر أو الضبع المعاصر أو كل ألوان طيف الخداع البرّاقة والمعطرة؟ كيف؟ تأملت الكلمات السبع ووجدتها أثقل من جبل في قونية أو في بلخ، وأثقل من أن تحتملها جبال الزيف والاحتيال التي صارت أضخم كثيرا من جبال ثلج، فرويد، الغاطسة تحت سطح الماء.

جلال الدين الرومي، من دون أن يدري، هو من أدخل الفلسفة في جبّة العابد أو الزاهد، وهو من مشى بها في الأرض شوقا بحثا عن ذلك الطريق البسيط جدا الذي يصل ما بين السماء والأرض من دون تعب أو دماء أو تحزّب أو عنف أو مباهاة بفضيلة، طريق قريب منك جدا، تسمع دبيبه في صوت ناءٍ يأتيك من راع بعيد فوق جبلٍ في قونية، فتترك كل مهام الفقه والشهرة في غرف الدرس، وتهاجر بروحك إلى هناك، كي تصل روحك ببساطة إلى غاياتها، وتصير حبيبا للأرض والسماء بلا عنتٍ أو أسئلة كبيرة أهدر فيها العقل آلافا من السنوات، من دون أن يصل إلى شيء سوى السأم أو الحرب أو هدم المدن بالقنابل.

خلّص جلال الدين الرومي الفلسفة من عذاب العقل وقسوته، كي يحارب هناك بقلبه وشغفه، لا بقنبلة، ولا بصاروخ، ولا بمدفع، ولا بدكّ المدن أو حرق القمح.

روح في الشرق، صنع الغرب منها الأفلام وغيره، ركن الغرب روح الناي في درس الموسيقى، وتفرّغ لرعب الصواريخ عبر البحار، أفسد الغرب الدرس كما أفسد الفلسفة بعد موتها "افتراضا" أيضا. .. هل للسياسة دخل؟ جميل أن جلال الدين الرومي داس على السياسة بقدمين، ومشى إلى هناك ناحية الموسيقى فوق الجبل.