جسر للطيبين
عنوان المقال هو تعبير عراقي شائع يستعمل، في الأصل، صيغة ترحيب واستعداد لخدمة الآخرين، فيكون صاحب الكلام مستعدّاً أن يتحوّل إلى جسر يعبر عليه الأناس الطيّبون. غير أن هذا التعبير سرعان ما انتقل إلى التهكّم، وصار يستعمل في تعليقات "السوشيال ميديا" للسخرية من الخضوع والاستسلام، وانتشر في الأسبوع الماضي تعليقاً على الصواريخ المتبادلة الإسرائيلية والإيرانية، والهجمات على مواقع داخل العراق، في تداعيات المواجهة بين إيران وإسرائيل.
حدث هذا التصعيد في وقت كان فيه رئيس وزراء العراق محمد شيّاع السوداني في واشنطن يلتقي مع الرئيس الأميركي جو بايدن، ويجري مباحثات عالية المستوى، وكان من المشاهد المؤثرة أن يذكر الرئيس الأميركي أمام رئيس الوزراء العراقي التزام إدارته بحماية إسرائيل ودعمها، ولعله موقف محرج للضيف الذي يحاول السير بصعوبة على حبل مشدود بين تيارات سياسية شتّى، غالبيتها تعلن العداء لإسرائيل، بينما على الضفّة الأخرى تفرض ظروف العراق الحرجة على المسؤولين العراقيين التزام الحذر والحياد قدر الإمكان في شرق أوسط متفجّر.
ومن هنا نفهم التزام الحكومة العراقية بمطالب التهدئة، والكلام العمومي عن الأبرياء والمدنيين والضحايا من دون أن يذكرهم أو يشخّصهم بالاسم. وفي الحقيقة، ليس للعراق شيء كبير يمكن أن يفعله في هذه المعمعة، بسبب خضوعه لتأثيرين متعارضين من إيران وأميركا.
ضربت إسرائيل على ما يبدو مواقع أمنية في العراق، ونفّذت عملية في الأراضي الإيرانية، وإن أحاطت هذه الضربات بالغموض والتعتيم الإعلامي، وقبلها أطلقت إيران موجة من المسيّرات والصواريخ، عبرت الأجواء العراقية باتجاه إسرائيل، ولم يفعل العراق، في كلتا الحالتين، شيئاً. ومع تفهّمنا الموقف الحرج للحكومة العراقية، إلا أن الصورة، في كل الأحوال، تدعو إلى الأسى والحزن، بسبب غياب ردّ حكومي حازم تجاه انتهاك الأجواء العراقية.
تنطلق الصواريخ بالاتجاهين، ويعلّق العراقيون بمرارة وسخرية سوداء: لقد أصبحنا "جسراً للطيبين". وهو هنا جسر بالمعنيين المادي، الذي تمثّله الصواريخ والمسيّرات، والرمزي؛ فالعراق ساحة مواجهة في معارك الآخرين.
بسبب هذه المواجهة غطست معاناة المدنيين الفلسطينيين المحاصرين في رفح إلى الأسفل وارتفعت في التغطيات الإعلامية أنباء التصعيد المحتمل للحرب بين إسرائيل وإيران، واحتمالات أن تتحوّل إلى مواجهة مفتوحة تصعب السيطرة عليها.
وبدا واضحاً للجميع أن إيران تدير مواجهتها مع إسرائيل من منظور الحسابات الأمنية الإيرانية، وليس بوصفها جزءاً من المعركة الدائرة في الأراضي الفلسطينية. وليس بالشيء الغريب أو الخطأ أن تضع دولة ما مصالحها الأمنية أولاً. ولكن انكشافه في الحالة الإيرانية يميط اللثام أكثر عن دعوى تسخير الجهد الإيراني لدعم الفلسطينيين أو دعم صراعهم مع إسرائيل، فهذا إن تعارض مع المصالح الإيرانية العليا فإنه سيغدو ثانياً، أو يغدو محسوباً بحذر ودقّة.
هذا كله مفهوم، وتفعله دولٌ كثيرة تحترم سيادتها. ولكنه عند جزء من الجمهور العراقي لم يكن يُفهم هكذا. فهو صراع عقائدي، يدفع إلى الابتهاج والاحتفال مع الدرونات العابرة على "جسر العراقيين الطيّبين"، من دون أي رجفةٍ في الضمير الوطني حول انتهاك السيادة. كما أن هؤلاء العقائديين المبتهجين لم يتساءلوا، عقب الهجمات الإسرائيلية على مواقع في العراق، هل من المناسب أن نردّ على إسرائيل، من المنطلقات العقائدية نفسها، لأنها انتهكت سيادتنا العراقية، أم ننتظر أوامر تأتي من خلف الحدود؟!
السؤال الأكثر إيلاماً في هذا الموضوع، والذي يمكن أن يُطرح على النخب السياسية العراقية، التي تشترك في إدارة مواقع السلطة الحساسة في البلد: هل يتطابق العراق مع إيران في منظورها لإدارة الصراع في المنطقة، أم يختلف؟ وهل تستطيع هذه النخب حقاً أن تجلس لتتفق في ما بينها حول الموقف الرسمي المناسب للعراق، أم يبقى في المنطقة الضبابية، ومحاولة إنجاز توازنات مستحيلة بين الضغوط الإيرانية والأميركية؟
يظنّ ساسة العراق أننا نكسب من الجميع بهذا الموقف الضبابي، ولكن لا أحد يفكّر بحجم الخسائر من السيادة واحترام البلد ومن الحضور المؤثر في المنطقة، بسبب ترك سيادة البلد "جسراً للطيبين".