جسر الانتحار
لماذا يميل المنتحرون الأردنيون إلى اختيار جسر عبدون في عمّان لوضع خاتمة لحياتهم، على الرغم من أنه ليس الأعلى ارتفاعًا في العاصمة، فثمّة شواهق أخرى أعلى منه بكثير لعشاق هذا النوع من وسائل الانتحار؟ أيكون السبب أن للجسور فلسفتها الخاصة، بوصفها حلقة وصل بين عاشقين، أو مجتمعين، أو مكاناً لالتقاء خصمين يتفق كلّ منهما على قطع "نصف الجسر" لعقد هدنة ما؟
في ذلك بعض الحقيقة، فلربما أرادت السلطات الأردنية، مثلاً، أن تمدّ جسراً بين مجتمعيْن تزداد الهوة بينهما تفاقماً، يوماً إثر يوم؛ مجتمع الأثرياء ومجتمع الفقراء، ولأنّها تتحيّز للمجتمع الأول بحكم تركيبتها واستراتيجياتها، اختارت أن يكون بناء هذا الجسر في أرقى مناطق العاصمة (عبدون)، لخدمة سكّانه، بينما تفضّلت على مشاة الفقراء بالسير على جنباته فقط، والتمتّع ببنائه الهندسيّ الخلاّب، خصوصًا أن طوله يبلغ نحو نصف كيلومتر، وتكلفة إنشائه نحو 15 مليون دينار، ويزدان ليلًا بأضواء ملوّنة باهرة، وتحيطه أقواسٌ معدنيةٌ على طول امتداده.
وكان يمكن أن يصبح هذا الجسر معلمًا سياحيًّا أو ملمحًا مميزًا للعاصمة، لولا أن الفقراء أفسدوا الخطط الحكومية، عندما اختاروه معلمًا جاذبًا للانتحار بدل النزهة والسياحة، فلا يكاد تمرّ بضعة أشهر، إلا ويقفز أحدهم من فوقه منتحرًا، وعلى الأغلب يكون فقيرًا، أو شابًّا عاطلًا عن العمل. عندها يصبح للجسر لون الموت، ويفقد بريقه الليليّ، ويغدو موقعًا للاحتجاج، وشاهقًا يبعث منه الفقراء رسالة هدم قوامها التشكيك بكلّ بنيان لا يقوم على "العدالة".
في نقطة الالتقاء، تماماً، فوق الجسر، ينسحب الفقراء قبل مصافحة خصومهم. يهدمون جسور اللقاء؛ يتراجعون لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمّل "هدنةٍ" أخرى تطيل عمر الذئب، وتخصم من أعمارهم، فيختارون موتاً دراميّاً من فوق "الإنجاز" نفسه الذي تتغنّى به السلطة، وتتخذه دليل إدانة لكلّ المشكّكين بمفاخرها (ومن ضمنهم الفقراء بالطبع)، وهنا يعكس الفقراء المعادلة، فيصبح الجسر دليل إدانةٍ للسلطة ذاتها، التي تشغلها أولويات أخرى لا تندرج ضمن بنودها مكافحة الفقر، والبطالة، والغلاء المستفحل، بل بناء جسر يكفي ثمنه لإنشاء مصنع، أو تعليم ثلاثة آلاف فقير، على الأقل، تعليماً جامعيّاً، وهنا أيضاً يتحوّل "جسر العناق" إلى "جسر الفراق".
لكن من سوء حظّ الفقراء الذين اعتقدوا أنّهم، بانتحارهم من فوق جسر عبدون، وجّهوا ضربة للخصم، أنّ الحكومة تنبّهت، بحكم ما تمتلكه من خبراتٍ مهولةٍ في التعامل مع خصومها الفقراء، إلى نواياهم "الماكرة"، فسعت إلى تفويت الفرصة عليهم، عندما تقدّمت بتعديل قانوني إلى مجلس النواب في دورته الماضية، بتغليظ عقوبة "محاولات الانتحار في مكان عام"، لتصل إلى السجن ستة أشهر، وغرامة قدرها مائة دينار، ومضاعفة العقوبة إن اتخذت شكلاً جماعيّاً. وبالفعل، جرى إقرار هذا التعديل، علماً أنّ معدلات الانتحار لم ترتفع كثيراً، غير أنّ الصدى الناشئ عن حوادث انتحار جسر عبدون، حصراً، يشغل مساحاتٍ إعلامية كبيرة، ويبعث ضجيجاً واهتماماً لافتين في المجتمع. وربما لهذا السبب، جاءت بواعث التعديل الخفية، وإن حاولت الحكومة والنواب تخفيف وقعه على نحو يثير السخرية، عندما زعموا أنّ الهدف الحقيقيّ يتمثل بالحرص على حياة المواطن.
يبقى أنّ ثمّة هدفاً "غير كامن" وراء هذا التعديل، وهو هدف ينسحب، أيضاً، على سائر أنظمة العالم الثالث التسلطية ذات الصبغة الفردية، التي ترى أنّها وحدها صاحبة قرار الحياة والموت لرعاياها، ولا يسمح لأحدٍ منهم أن يختار موته بيده؛ لأنّ فكرة "الاختيار" نفسها ممنوعة، ومن ثمّ فهي تعدّ الانتحار من أشكال التمرّد، والعصيان المدنيّ، وقد يفتح الباب على "حريّات" أخرى ينبغي أن تظلّ مكتومة، مثل ما تحتاج إلى مواطن على "قيد الحياة"، أعني لا "قيدها"، لا لشيء إلّا لإثبات سيادتها وتسلطها، لأنّ السلطة لا تستقيم بلا قامع ومقموع.
بهذا المعنى، يغدو الانتحار مخيفاً للسلطة أكثر من المنتحر؛ ولا خلاص من هذا المأزق إلّا بقفز السلطة من فوق الجسر.