جزر القمر والصومال يتفوّقان عربياً
كان لافتاً أن تمُر في الثالث من مايو/ أيار الجاري مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة بغير أن تثير اهتماما يُذكر في عالمنا العربي، لا على مستوى رسمي أو أهلي، لا على مستوى الإعلام المملوك للحكومات، ولا على مستوى إعلام القطاع الخاص، لا على مستوى وزارات الإعلام والاتصال، ولا بما يخصّ نقابات الصحافيين، فحتى الصحف وما هو في حكمها من مواقع إخبارية هنا وهناك، لم تتوقف إلا لماماً عند الذكرى الثلاثين لإعلان الأمم المتحدة تخصيص هذا اليوم من كل عام لحرية الصحافة، فقد بات مفهوم حرية الصحافة ترفا ولزوم ما لا يلزم لحكوماتٍ عديدة، فيما تخوض أغلبية المواطنين العرب، باستثناء دول الخليج، معركة يومية من أجل البقاء بالمعنى البيولوجي، ما يجعل الاهتمام بأمورٍ معنويةٍ من هذا الصنف ترفا بدوره، أو مطلبا لا يحظى بأولوية في هذه الظروف.
ومع ذلك، وفي غمرة هذا الشعور بالسواد المخيّم، يُحاجج كثيرون بأن حرية التعبير تُنتزع انتزاعا، وأنه لا يمكن السيطرة على الفضاء الرقمي، وأن ثمة منصّات ومواقع بلا عدد تبثّ موادّ مصوّرة ومسموعة ومكتوبة على مدار الساعة، وأنه لم يعد في وسع أية جهة، وقف التدفّق الحر للمعلومات، أو كتم حرية التعبير، وذلك صحيح جزئيا ومن حيث المبدأ، غير أن كثيرا مما يتم بثه قد يصمد أو ينهار أمام معيار المصداقية، ما يجعل الشكوك تنتاب المتلقّين، خلافا للحدّ الأدنى من المصداقية، وما يزيد عنه التي وفّرتها وسائل إعلام "تقليدية" من صحفٍ ومطبوعات ووكالات أنباء، فضلا عن ترسانة القوانين والإجراءات الحكومية التي باتت تُخضع جميع وسائل التعبير، بما فيها الإلكترونية للمساءلة، وبخاصة مع العلاقات التي نشأت بين الحكومات وأجهزتها من جهة، ومنصات التواصل الاجتماعي الكبرى ومحرّكات البحث وحتى الشركات المزوّدة بخدمة الإنترنت من جهة ثانية. ومؤدّى ذلك أن النافذة المتاحة عبر الفضاء الرقمي قابلة للتقييد، كما أنها قابلة للاختراق من الحكومات. وأخيرا، نجحت حكوماتٌ عديدة، بما في ذلك حكومات غربية، وعلى سبيل المثال، في وقف بث منصة تك توك على الهواتف النقّالة، وبدواعٍ مختلفة.
الصومال الذي يجاهد في الاحتفاظ بصفة دولة، يتقدم في المركز السابع عربياً في حرية الصحافة على دول، مثل المغرب والأردن والكويت
وإذ حلّت مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة بغير أن يحتفل بها أهلها من الصحافيين أو يتوقفوا عندها، رغم أنها مناسبة مرعيّة من الأمم المتحدة ومن منظمة اليونسكو التابعة للمنظمة الدولية، غير أنها لم تمُر بدون ظهور مفارقات غريبة، من أهمها التقرير الذي بثّته منظمّة مراسلون بلا حدود، بشأن مؤشّرات حرية الصحافة العربية لعام 2023، وذلك ضمن المؤشّرات المتعلقة بـ 180 دولة، فقد جاء ترتيب الدولة الأولى عربياً، في المركز 75 عالميا، أي أن 74 دولة تسبق هذه الدولة العربية التي حظيت بالترتيب الأول بين شقيقاتها العربيات. ولم تكن هذه الدولة إحدى الدول التي شهدت نهضة صحافية منذ قرن على الأقل، بل لا يتوقّع كثيرون في عالمنا العربي أن تلك الدولة تحوز صحافة ذات شأن، وربما على نشاط صحافي ما. ولم تكن هذه الدولة التي سبقت شقيقاتها العربيات بأشواط في مجال حرية الصحافة، حسب هذا المؤشّر سوى جزر القمر. ووفق موسوعة ويكيبديا، الصحيفة المحلية الرائدة هناك هي "الوطن" التي تنشر في جزيرة القمر الكبرى، إضافة إلى "البلد" و"كويزي". وإذ تعتبر العربية واحدةً من ثلاث لغات معتمدة رسميا إلى جانب الفرنسية والسواحلية، فإن الفرنسية هي لغة التعليم في المدارس الحكومية. وبينما حظيت تونس بالمركز الخامس عربياً، إلا أن مركزها تراجع عالمياً من الموقع 94 في العام الماضي إلى المركز 121. وكذلك الحال في الأردن التي حلت في المركز العاشر عربيا، لكنها تراجعت من المركز 120 عالميا إلى المركز 146 لهذا العام.
التنمية في عالمنا العربي تعاني من تشوّهات، أو أنها على الأقل تنمية غير متوازنة
ولم تتوقّف المفاجآت عند حلول جزر القمر في المركز الأول عربيا، إذ إن دولة عربية "طرفية" أخرى قد تقدّمت إلى المركز الثاني عربياً، وهي موريتانيا التي شهدت في السنوات القليلة الماضية حراكا سياسيا واسعا، وتتنافس كل من العربية والفرنسية على احتلال الفضاء العام مع أرجحية مطّردة للغة العربية. ورغم الانهيار الذي يعانيه لبنان على مختلف الصعد، إلا أنه حافظ على موقع متقدّم عربياً في المركز الرابع، وقد سبقته إلى المركز الثالث قطر التي تُعنى وسائل إعلامها عناية فائقة واحترافية بشؤون العالم العربي والعالم، مع اهتمام أقل بالوضع الداخلي. وبهذا، فإن أربع دول عربية "صغيرة" قد تقدّمت إلى المراكز الأولى، متقدمة على غيرها من دول كبيرة وعريقة في مضمار حرية الصحافة، ولكن من دون التصدّر على مستوى العالم.
ومن يرغب بمزيدٍ من المفاجآت في هذا المؤشّر الصادر حديثا عن منظمة دولية موثوقة ومرموقة له أن يعرف، إن لم يكن قد عرف من قبل، أن دولة طرفية أخرى، هي جيبوتي، قد احتلت المركز السادس عشر عربياً، وهو مركز ليس متقدّما، لكنه يسبق مركز كل من مصر والعراق، وكل منهما ذات تاريخ عريق وسجل حافل في الحياة الصحافية. وتكتمل المفاجآت بحلول دولة تجاهد في الاحتفاظ بصفة دولة، في المركز السابع عربياً، متقدّمة في وضع حرية الصحافة على دول، مثل المغرب والأردن والكويت، وهي دول قطعت شوطا طويلا في ازدهار الصحافة فيها، وهذه الدولة هي الصومال.
تعني حرية الصحافة بين ما تعنيه، وفق المعايير الدولية، سلامة الصحافيين والحقّ في الوصول إلى المعلومات، وضمان عدم تهديد حرّية التعبير من أي جهة. ولحسن الطالع والتدبير أن دولاً فقيرة أو "صغيرة" قد احتلت مراكز متقدّمة في هذا المجال على دول أخرى ذات وزن وشأن، وبما يدلل على أن التنمية في عالمنا العربي تعاني من تشوّهات، وأنها على الأقل تنمية غير متوازنة، وذلك ينطبق على دول مثل جزر القمر والصومال ولبنان، إذ تحتفظ بمراكز متقدّمة نسبيا في مجال حرية التعبير، لكن التنمية في بقية المجالات تبدو ضعيفة أو لا وجود لها، بينما تنعكس الآية او تتفاوت الصورة في دول أخرى.